الأراضي الدولية الفلاحية بين ''الثورجية'' ومسؤولية الدولة

بقلم د. سليم بن حميدان
تمثل قضية تسويغ الأراضي الدولية الفلاحية محور تجاذب واحتقان خطير تفاقمت حدته بعد ثورة 14 جانفي المباركة.
تمثل قضية تسويغ الأراضي الدولية الفلاحية محور تجاذب واحتقان خطير تفاقمت حدته بعد ثورة 14 جانفي المباركة.

فقد طفت على سطح الأحداث ومنذ الأيام الأولى للثورة ظاهرة الاستيلاء على الضيعات الدولية بجميع أصنافها (شركات إحياء، مقاسم فنية وقطع أخرى) مخلفة خسائر فادحة ومؤلمة في المعدات والثروات المائية والزراعية والحيوانية.
ولئن كانت غالبية الاستيلاءات قد وقعت في سياق ثوري قادته جماعات أهلية تستند إلى المشروعية الثورية مثيرة قضايا الموالاة والمحاباة في الإسناد، والفساد في الاستغلال، ومطالبة بالحق في التشغيل والتنمية وبالتوزيع العادل للثروة، فإن العديد منها كان عملا إجراميا مفتعلا من قبل المتسوغين الشرعيين أنفسهم ابتغاء التمويه على الدولة والحصول على تعويضات مالية عن الأضرار !
وبين هذا الفريق وذاك تعالت أصوات بعض الزعامات الفئوية (وليس الوطنية) مشرعة لثقافة العنف الثوري ومحرضة على الاستيلاء على الملك العمومي باعتبار حق الجميع في الشغل عبر الحيازة والاستغلال إلى درجة المطالبة بإسناد مقسم لكل عاطل.
استغلت هذه الأطراف هشاشة الوضع الانتقالي الذي تمر به البلاد وسارع كل فريق إلى تجييش إمكانياته المادية والبشرية لفرض إرادته أو بالأحرى قانونه على الدولة والمجتمع.
تقاطعت إذن المطالب والمواقف المشروعة للجماعات الأهلية والشباب الثائر في الجهات موضوعيا مع المصالح والحسابات الثورجية للأحزاب والزعامات الفئوية لتكون الضحية الأولى والأخيرة هي الدولة باعتبارها الناظم القانوني لكينونتنا الاجتماعية.
قطعا، لا يمكن لهذه المهزلة أن تتواصل كما لن نستطيع التسامح أكثر مع المستولين على الملك العام أو المعتدين عليه مهما كانت دوافعهم ومبرراتهم لأننا نكون بذلك قد بررنا اضمحلال الدولة وفتحنا الأبواب تدريجيا أمام الفوضى والاحتراب الأهلي.
إن السلطة الحاكمة اليوم تتمتع بالشرعية الديمقراطية الكافية وبالمشروعية الثورية الكاملة التي تفرض عليها حماية الملك العام والذود عن هيبة دولتنا ورعاية أمننا الاجتماعي والاقتصادي.
كمسؤول أول على أملاك الدولة أي مؤتمن عليها أريد التذكير بكوني توليت مسؤوليتي في سياق ثوري ضمن معادلة حكم أفرزتها إرادة شعبية لها مبادؤها وأهدافها. ومن هذا المنطلق فإنني محمول على ترجمة هذه الإرادة الثورية أو بالأحرى تنفيذها بمقتضى عقد الوكالة مع أصحاب الحق الشرعيين.
هذه الإرادة، كما أفهمها طبعا، تنشد التأسيس لدولة القانون والمؤسسات فيما هي وحدة معنوية تتحقق عبرها إرادة العيش المشترك وتفوضها الجماعة الوطنية حل التناقضات التي لا تستطيع حلها بنفسها.
وعليه، فإنني لا أقبل مطلقا أن تنازع الدولة وقوانينها النافذة اليوم جماعات تريد فرض إرادتها أو قانونها الخاص معرضة بذلك الأمن الغذائي للمجموعة الوطنية للخطر الداهم والماحق لا سمح الله.
ثم إن الإجراءات الثورية التي تم اتخاذها في الغرض والمتمثلة في مصادرة عديد الضيعات التي أسندت بالمحاباة لبعض أزلام النظام البائد وتفعيل قرارات إسقاط الحق ضد المخالفين لكراس الشروط من المنتفعين بعقود تسويغ لمقاسم فلاحية تندرج كلها ضمن سياق التنفيذ العملي للإرادة الثورية لشعبنا في استعادة دولته لأملاكها والقطع نهائيا مع منظومة الاستبداد والفساد التي طالما حكمت منظومة التسويغ والاستغلال العقاري الفلاحي في بلادنا، ولن يستطيع أحد المزايدة علينا في هذا الباب (الثورية).
في هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أن هذه الإجراءات لا تنبثق من مجرد إرادة ثورية بل إنها تستند في تنفيذها إلى المشروعية القانونية بما معناه أن السلطة التنفيذية صاحبة السيادة والإرادة ليست مطلقة الصلاحيات وأن قراراتها قابلة للطعن من طرف الخصم وللإلغاء من طرف القضاء الإداري.
إن المنظومة القانونية لدولة الثورة هي ذاتها التي كانت نافذة قبلها، عدا الدستور الذي تم تعليقه والاستعاضة عنه بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية في انتظار الدستور الجديد، وبعض المراسيم والقوانين ذات العلاقة بالحريات العامة أو تلك التي فرضتها اللحظة الثورية (المصادرة – استرجاع الأموال المنهوبة – انتخابات المجلس التأسيسي ...الخ).
كما تجدر الإشارة إلى أن النصوص القانونية النافذة والتي تم التأسيس عليها هي خاصة المرسوم عدد 13 المؤرخ في 14 مارس 2011 المتعلق بمصادرة أموال وممتلكات منقولة وعقارية وكذلك القانون عدد 64 لسنة 1991 المؤرخ في 29 جويلية 1991 المتعلق بالمنافسة والأسعار).
هذا المعطى الموضوعي مضافا إليه مبدأ تواصل الدولة يفرض استمرار العمل بالقوانين النافذة ما لم يتم إلغاؤها أو تعديلها، وهو ما ينطبق على قضية الحال حيث يبقى التشريع المتعلق بتسويغ العقارات الدولية الفلاحية ساري المفعول والعقود المبرمة بين الدولة ومواطنيها ملزمة للأطراف وفيصلا في المنازعات.
يستوجب إسقاط الحق كمطلب ثوري وكإجراء قانوني عادل، ضد المتسوغين المخلين بالشروط الإنمائية والتعاقدية المضمنة في كراسات الشروط، صيغا وآجالا زمنية مضبوطة يفضي عدم احترامها إلى إلغاء القرار الإداري القاضي به عبر الطعن فيه بتجاوز السلطة لدى المحكمة الإدارية.
وحيث يفرض القانون الجاري به العمل إلى حد الآن القيام بمعاينات ميدانية من قبل موظفين محلفين
للوقوف على الإخلالات الانمائية والتعاقدية وتوقيع محاضر في الغرض ثم توجيه إنذارات للمتسوغين
في حال ثبوتها مع مهلة ثلاثة شهور للتدارك (10 أيام بالنسبة للاخلالات التعاقدية وذلك حسب القانون عدد 11 لسنة 1998 المؤرخ في 10 جوان 1998) تليها معاينة ثانية وأخيرة تبرر قرار إسقاط الحق عند ثبوت المخالفة لتبقى حماية المتسوغ واستثماراته محمولة على الدولة.
وعليه فإن الاستيلاء على العقارات الدولية أو منع المستغلين الشرعيين من حقهم في الانتفاع بها تحت أي مبرر كان وتخلي الدولة عن واجبها في حمايتهم يوفر للمخلين منهم ذريعة ذهبية للتفصي من مسؤولياتهم والطعن في مشروعية قرارات إسقاط الحق.
هكذا يمكن أن يتحول الثوريون إلى فوضويين لجهلهم بالقوانين أو تجاهلهم لها وإطلاقهم العنان لمطالبهم ورغباتهم وحاجاتهم، على مشروعيتها، دون ضابط أو كابح فتصدق فيهم الأمثال القائلة كل ما بلغ الحد انقلب إلى الضد و يفعل الجاهل بنفسه ما لا يفعله العدو بعدوه .
إن مثل هذه الممارسات تلتقي موضوعيا مع استراتيجية أعداء الثورة لأن الحصيلة ستكون كالآتي :
- إلغاء قرار إسقاط الحق ضد المخالفين وإمكانية التعويض لهم ونتائجه المادية والسياسية
- إتلاف المعدات والتجهيزات وآثاره المالية
- إهدار الثروة الزراعية والحيوانية ومضاعفاته الاقتصادية
- حرمان الموظفين والعمال من أجورهم وانعكاساته الاجتماعية
- نشر الفوضى والتطاول على الدولة وارتداداته الأمنية والثقافية
ممارسات تدينها الثورة ويجرمها القانون وترفضها الحداثة والديمقراطية والروح المدنية لأنها وبكل بساطة تناقض مفهوم الدولة وتهدد الوجود الاجتماعي برمته.
وعلى صعيد آخر لا ينبغي أن نستبدل شنآنا بظلم وقهرا بجور إذ لا يجوز ولا يعقل التسلط على من عاهدته الدولة فأوفى (من الفنيين الفلاحيين) بأن مكنته أرضا يفلحها فأينعت ثمارها وفاضت خيراتها بعد مجازفة كلفته وظيفة قارة وأجرا ثابتا ثم جاءت الثورة فجار عليهم الأجوار بعد أن صنفوهم ظنا وعدوانا من الأزلام والأشرار مما خلف دمارا ماديا ومعنويا مروعا يشيب لهوله الولدان. مثل هذه الإعتداءات الفظيعة على البشر والشجر وصمة عار في سجل ثورتنا الغراء وتنكر لتعاليم ديننا السمحة (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى) وخيانة موصوفة لشهدائنا الأبرار الذين قدموا أرواحهم قربانا لقيم الحرية والكرامة والعدل.
حقيق على الدولة بل على المجموعة الوطنية كلها حماية هؤلاء وتأمين استثماراتهم في الأراضي الدولية التي في حيازتهم ما دامت عقودهم قائمة وشروطها محفوظة وليس على المتظلم الثائر سوى اللجوء إلى العدالة للمطالبة بحق مفترض أو نصيب من ميراث روماني تليد !
ولابد هنا من التذكير بأن الفصول 255 و304 و307 من المجلة الجزائية تنص بصريح العبارة على العقوبات المالية والبدنية لكل من ينزع بالقوة من يد غيره ملكا عقاريا .
لا يمكن لأي رجل دولة ديمقراطية أن يقبل بالتمرد عليها أو بفرض قانون غير ذلك الذي شرعته مؤسساتها السيادية المنتخبة، كما لا يمكن لأي رجل ثورة شعبية أن يسمح بتحويلها إلى استبداد شعبوي
ينسف مفهوم الدولة أصلا ويصادر مبادئها القانونية ومضامينها الأخلاقية والحضارية السامية.
لذلك لا يمكن الخضوع إطلاقا للإرادة الثورية للجماعات مهما كانت طهوريتها لأننا قررنا كتونسيين أن نعيش جماعة واحدة تنتظم في دولة موحدة ذات نظام جمهوري العلوية فيه للقانون والأمن حارسه.
ولن يكون لنا من خيار إذن سوى تطبيق القانون إن نحن أردنا تثبيت السلم الإجتماعي ومدنية الدولة، وليس لنا بد من اللجوء إلى الأمن الجمهوري أي العنف المنظم بالقانون كملاذ أخير لإنقاذ ثروتنا وتحقيق أهداف ثورتنا.
Comments
2 de 2 commentaires pour l'article 54502