البنفسجية تلبي النداء

بقلم عبد الجليل الجوادي
و أنت تشاهد القناة التلفزية تونس 7 -بعد أن غيرت صورتها الخارجية و بدلت تسميتها بالوطنية الأولى- يصيبك الذهول من هول ما تسمع و ترى و لا تصدق إن كان قد حصل في تونس ثورة و سالت دماء لمئات من الشباب الثائر أم أنه مجرد حلم جميل انقلب إلى كابوس حالك يجثم على الصدور.
في كل الثورات في العالم، حين تأتي حكومة شرعية منتخبة طبق قواعد اللعبة السياسية، فمن المنطقي أن يكون الإعلام في مستوى تطلبات الثورة و أهدافها. الإعلام بما يلعبه من دور خطير في تشكيل وجهات النظر و تنوير الضمير العام، من شأنه الدفع إيجابيا في اتجاه تحقيق ما يطمح إليه الشعب الذي هو سيد الموقف و هو الذي اختار من يمثله و يعبر عنه و يححق طموحاته المشروعة.

في هذا البلد الحبيب تونس مهد الثورات العربية، ما من أحد إلا و اكتوى بآلة الظلم و الظالمين.
حين كان الحاكم المتسلط، يمسك في قبضته بكل خيوط الحياة السياسية و يوجه كل شيئ لخدمة أغراضه الشخصية و شهواته المرضية و يخطط و يدبر للبقاء فوق عرش الحكم حتى يخرج من الدنيا بحكم قاعدة الفناء التي لا تستثني أحدا. في تلك السنوات العجاف، كان الإعلام يعمل ليلا و نهارا لتلميع صورة الظالم و تبرير ظلمه و إخراجه في ثوب العدل، وضرب كل صوت حر و تشويه المعارضة بالداخل و الخارج. كان الإعلام المأجور، يتفنن في خدمة أسياده من الذين زوروا الشرعية و استولوا على السلطة بالكذب و التدجيل و قلب الحقائق و التخويف من خطر الإرهاب الذي يزحف على المدنية ليقتلعها و يعيد الناس إلى العصور الوسطى حيث لا ثقافة و لا فكر و لا لإبداع، و لا حقوق للمرأة نباهي بها في المحافل و نضحك بها
على ضقون البلهاء و السذج....


هذا الإعلام، سارع بعد الثورة إلى تغيير إسمه و شكله مثل ما يفعل أي مجرم يخشى العقاب فيختفى وراء قناع و يغير شكله الخارجي حتى إذا مر أمام دورية للأمن لم يتفطنوا إليه. و لكن ماذا لو طلبوا بطاقة هويته؟؟؟ ماذا لو طلبوا الكشف عليه في حجرة إنفرادية؟؟؟
أترك لكم تخيل الموقف لأن رائحة العفن كانت ستغطى المكان و لن يقوى أحد على مكابدة البقاء نزرا من الوقت.
أذكركم و أنتم لا تجهلون، أن شعار الثورة الذي إلتقت عليه كل الشرائح الإجتماعية و الأطياف السياسية على اختلافها، هو تطهير البلاد من التجمع و التجمعيين. شعار كان يطالب بحل حزب الدستور باعتباره جلاد الشعب على مدى عقود من الزمن.
هذا الحزب اللقيط الذي ليس له من الشرعية سوى تشابه في الأسماء بينه و بين الحزب القديم. فحين بدأ الناس يملون الحزب الإشتراكي الدستوري و يشمئزون من ذكره و بدأت تمجه الأذان و الأذهان، سارع الدستوريون إلى تغيير اسمه و تبديل الحزب بالتجمع و زادوا في تنميقه فاستعاروا من قاموس اللغة عبارة طالما رقصوا على أوتارها و تزينوا بها في المحافل الدولية، فأصبح اللقيط شرعيا و كانت الولادة برعاية كبار الكهنة و أعوانهم الذين ضلوا يحركون خيوط المسرح السياسي عقودا من الزمن من وراء الستار.....
كانت الولادة شرعية من أب غير شرعي و لك أن تفهم المعادلة حين تراجع ورقات التاريخ القديم.....التاريخ الذي كنبوه على مقاسهم فخرجت الصورة قاتمة و بات المشهد يتيما من المناضلين الشرفاء و تربع على عرش النضال مجاهد أوحد أو مجاهد أكبر كما كان يحلو له أن يلقب. عذرا لأيتام بورقيبة وأزلام زعبع....و لا عذر للسارق يوم غفل من كتب الدستور القديم على تجريم من يدلس التاريخ...
و هل هنالك جريمة أشد من أن يعيش أجيال و أجيال من التونسيين على الكذب والخداع و قلب الحقائق؟؟؟؟ فأين في تاريخنا أسماء المناضلين الشرفاء من الحزب الحر الدستوري الذين قدموا التضحيات و جادوا بالنفس و النفيس لتحرير الوطن من الإستعمار الفرنسي؟؟؟؟.
يوم كان زعيم تونس الملهم يجمع في قبضته كل السلطات فينصب من يشاء و يعزل من يشاء و يقود الجيوش برا و بحرا و جوا و يمضي القوانين و يقمع معارضيه بالحديد و النار و يتعامل معهم بمنطق أنا ربكم الأعلى و منطق ما أريكم إلا ما أرى ...يومها كان الإعلام يصفق و يهلل و يبارك و يمجد و يطل علينا كل ليلة في موعد متجدد مع توجيهات الرئيس يتحدث فيها قائد الأمة عن نضالاته التاريخية و مناقبه الشخصية و مآثره و ما قدمه لتونس من الجهود الكبيرة في معركة التحرير الوطني و معركته مع الجهل و تنوير العقول حتى بانت الصورة و كأن للقائد شعب يحكمه بدلا من أن يكون للشعب حاكم يقوم على خدمته و تلبية مطالبه كما هو الشأن في أغلب دول العالم المتحضر.
و في الموعد كان الإعلام يوم جاء التغيير المشبوه برجل طرح نفسه منقذا لتونس و قدم بيان السابع دستورا جديدا للدولة و عهدا للأمان. فسارع القائمون على هذه المؤسسة بتغيير تسميتها من الإذاعة و التلفزة التونسية إلى قناة تونس 7 و سريعا ما ألبسوها الحلة البنفسجية عندما علموا أن هذا اللون يروق لعاهرة تونس الأولى....
هكذا الحرباوية بامتياز مع مرتبة الشرف في التعامل مع المشهد السياسي.
ثلاث و عشرون سنة من التطبيل و التهليل و الدعاية المغرضة و المساعى المحمومة في تجميل صورة الظالمين و تزوير الحقائق و التقليل من شأن المعارضة و تقزيمها و إظهارها في مظهر العاجز قليل الحيلة عديم الفهم أمام عبقرية زعبع التي صارت مضربا لكل مثل.....
ثم جائت الثورة المباركة لتدك حصون الجبابرة فانهار كل شيئ و التقط الشعب أنفاسه ليسترد ثقته في القدرة على تسيير شؤون البلاد و اختيار من يمثلونه في انتخابات هي الأولى من نوعها في تاريخ تونس. إنتخابات عجز عتاة المزورين عن تدليس نتائجها، فعبر الشعب عن إرادته الحقيقية في ترشيح من راى فيهم الصدق و الأمانة في تحمل المسؤولية الثقيلة بعد عقود من الخراب....
و هنا تلوح الصورة خلافا لما عهدناه. فالإعلام هو الجهاز الوحيد الذي ظل يراوح مكانه و يظهر عدائه الشديد لمن جاءت بهم صناديق الإقتراع فيصور البلاد على أنها محرقة و يهول الأحداث و يتتبع العورات و يتغاضى عن أي إنجاز تقوم به الحكومة و يدفع للتصعيد بتصريحات نارية لأناس مأجورة جاؤوا بها من أرشيف التطبيل ليوضفوها في إسقاط الحكومة عبر مخططات جهنمية مدروسة يحوكها اليسار المتشدد و يرعاها أصحاب المال الفاسد و المصالح
المشبوهة...فيخيل إليك و أنت تشاهد نشرة الأخبار أنك في العراق أو فلسطين حيث رحى الحرب دائرة و لا مكان للسلم الإجتماعية و لا معنى للأمن. حتى إذا خرجت من بيتك، نظرت يمينا و نظرت شمالا فلم تجد شيئا مما سمعت فتصاب بالذهول.
و حين نضجت الطبخة المسمومة و جاء نداء تونس برعاية من السيد باجي قايد السبسي، سارع الإعلام لتغطية الحدث العظيم تلبية لنداء بجبوج، فكانت الحوارات الموجهة و اللقاءات الممنهجة و أطلت علينا رؤوس الأفاعي القديمة تبث سمومها عبر هذا الجهاز اللقيط حتى سمعنا من التجمعيين من يتبجح بدور التجمع في إنجاح الثورة و أوصلته و قاحته للقول بأن هذه الثورة، ما كان لها أن تنجح أو ترى النور لولا التجمع.
و سمعنا في هذا الجهاز من سفه أحلام الشعب و اعتبر حل التجمع خطأ جسيما في حق البلاد و العباد...و سمعنا من جائنا بنظرية جديدة مفادها أن التجمع قد تم حله أما التجمعيين فإنهم تونسيون لهم كامل الحقوق...و سمعنا من يبشر بثقافة سياسية جديدة و رائدة حين يفرق بين التجمعيين و الدستوريين و يشيد بدور هؤلاء في بناء تونس بعد الإستعمار فيسوق لدخول التجمعيين من باب الدستورية بعد أن أخرجهم الشعب من باب التجمعية.....
و أنا شخصيا بت لا أستغرب أن يأتي من هؤلاء من يقول بأن التجمع هو من قام بالثورة حين تفطن لفساد بن علي و حاشيته.....ليس غريبا و لن يكون غريبا أن يتلقف إعلامنا البنفسجي هذه النظرية و يدعمها بكل ما توفر لديه من طرق الخداع و أساليب التلبيس و قلب الحقائق بحرفية يعجز عنها أكبر الإعلاميين في العالم.
و يبقى السؤال، إلى متى سيضل إعلامنا يشدنا إلى الوراء و يحبط عزائمنا و يسفه أحلامنا و يصادر الأمل في صدورنا؟؟؟ متى تزول الغمة عن شعب ضاق الويلات عقودا من الزمن؟؟؟؟ أليس من حقنا أن يكون ليدينا إعلاما وطنيا بحق، يعبر عن إرادة الشعب و يواكب طموحه في التنمية و الرقي و السلم الإجتماعي؟؟؟؟ إلى متى السكوت على حفنة من المتزلفين أصحاب المصالح، يسمح لهم باتخاذ منابر للفتنة و تغليط الرأي العام و توجيه الناس إلى قضايا ثنوية لا تخدم مصلحة البلاد؟؟؟؟ و أين الحكومة من كل هذا؟؟؟؟
باسم الشرعية و باسم الديموقراطية التي تفرض على الأقلية احترام الأغلبية و النزول عند حكمها. باسم المصلحة العامة و باسم هيبة الدولة و القانون، فإنني أطالب باتخاذ إجراءات عاجلة لتطهير الإعلام تطهيرا كاملا مهما كان الثمن، قبل أن يخرج الأمر من زمام السيطرة و يصبح التطهير فعلا شعبيا يشبه الطوفان لا يقي و لا يذر.
Comments
42 de 42 commentaires pour l'article 51299