صُداع على قارعة الطريق

ما أصعب أن تلاقي ثرثارا ينبري يحدثك و ينتقل بك من موضوع إلى آخر دون مقدمات و لا خاتمات و لا يترك لك مجالا لأن تشاركه الحديث حتى يصيبك صداع فظيع , فتلعن الظروف التي جعلتك تلتقي به ..... يمسكك و لا يتركك تفلت منه، فما إن تعتقد أن حديثه انتهى حتى يبدأه من جديد ، و إن لاحظ أنك تتململ أو لست منتبها له فإنه يقول لك : تسمع فيّ ؟! أو يزلزلك بيده أو بمرفقه لينبهك إلى حديثه. و المعذرة إن فسحت المجال لأحد الثرثارين المحترفين حتى يحدثكم و يفرغ ما بجعبته فيصيبكم حتما بصداع مثلما أصابني. فقد استوقفني ذات مرة ـ و أنا مثقل بأكياس تحتوي عددا من المشتريات ثقيلة الوزن ـ ثرثار محترف قصد استشارتي في موضوع ما و لكن افترقنا و إلى يومنا هذا لم أعرف هذا الموضوع الذي أراد أن يستشيرني فيه و لم أطلع عليه . قال الثرثار المحترف :
عدت يوما إلى البيت فداعبت خياشيمي رائحة كسكسي بالعصبان لذيذ جدا ، و إني أعشق هذه الأكلة و خاصة من يدي زوجتي الطباخة الماهرة التي يستدعيها الأقارب و الجيران لتطبخ لهم الأطعمة الفاخرة في مناسباتهم السعيدة أو الحزينة . و لا شك أني سأدعوك ذات مرة إلى بيتي حتى تتذوق كسكسي زوجتي اللذيذ ، و ستعاين على أرض الواقع مدى مهارتها في الطبخ و مدى إتقانها لهذا الفن العريق جدا . جلست و أخذت أشاهد إحدى القنوات الإخبارية و ما تعرضه من أخبار عن العراق و لبنان و إيران و فلسطين و إسرائيل و كوريا الشمالية . أين توجد كوريا الشمالية ؟ هل هي أبعد من فرنسا ؟ و هل هم روامة و قورّة أم مسلمون مثلنا ؟! و قد شاهدت لقطات جميلة من مقابلة في كرة القدم لست أدري إن هي من البطولة الفرنسية أم من إحدى البطولات الخليجية أم من أمريكا اللاتينية ، و أنا لا أعرف أ تسمى أمريكا اللاتينية أم أمريكا الجنوبية ؟؟!! شعرت بآلام شديدة في ساقي اليسرى و هي تؤلمني منذ مدة . وضعت زوجتي طبق الكسكسي أمامي و لكني سألتها : أين الرايب؟ فأنا لا أتناول الكسكسي إلا مع الرايب و قد تعودت على ذلك بعد أن نزلت ـ وأنا عازب ـ ضيفا على صديق يسكن مدينة أخرى و قد اقترح علي مثل تلك الأكلة . و قد كان هذا الصديق شخصية طريفة جدا يحبذ إيقاع أصدقائه في مقالب
مختلفة إذ أني لما زرته قدم لي امرأة على أنها شقيقته و اقترح علي أن أتزوجها ففاجأني بالأمر و لو أنها أعجبتني و نزلت في نفسي منزلا حسنا ، و لكن في ما بعد تبين لي أنها زوجته فكاد يُغمى علي و شعرت بحرج كبير جدا ، و نحن نتناول الكسكسي روى لي صديقي طرفة مضحكة حتى كدت أختنق ، فهناك رجل يدور حول بئر بسرعة فائقة و لا يتوقف أبدا عن الدوران و يردد 17 ... 17 .... 17 ... فانتبه إليه أحدهم متعجبا مما يفعل و يقول و ما فتئ أن توجه إليه بالسؤال : ماذا تقصد بـ 17 ؟ فتجاهله الرجل و بقي يدور مرددا نفس الرقم 17 ، و لكن الآخر أصر على طرح سؤاله ، فما كان من الرجل إلا أن دفعه بكلتا يديه و أسقطه بالبئر و واصل دورانه مرددا 18 ... 18 .... 18 ... و قد أضحكتني هذه الطرفة كثيرا . أرسلت ابني لشراء الرايب و شغلت نفسي بمشاهدة شريط وثائقي عن طبقة الأوزون , أين تقع هذه الطبقة ؟ و ما دورها ؟ أ تعرف أن السيجارة هذه التي في يدي مضرة بطبقة الأوزون؟ هكذا قالوا و أنا لا أصدقهم ، يقولون إن التدخين يسبب مرض السرطان و يؤدي إلى الموت ، فها هي جارتنا مصابة بالسرطان و لكنها لا تدخن , إنهم يكذبون و إلي عمرو في السبعين ما يموت في الستين ... أتعرف أني أحبذ تدخين الشيشة و خاصة تلك المجوركة ؟؟!! هل تدخن أم أنت مثل جارنا الذي لا يدخن لأنه زوجته منعته من ذلك ؟؟!! إني لا أحترم الرجل الذي تتحكم فيه زوجته و يأتمر بأمرها ... جاء ابني بعلبة الرايب . يا حسرة على أيام زمان حينما كنت أشرب الرايب من القلة مباشرة و أعمل ستة و ستين كيفا حينما أشاهد في المرآة شفتي بيضاوين ملطختين بالرايب فأمسحهما بكمّ قميصي ، لم يكن الرايب في ما مضى في العلب الصغيرة مثلما هو الشأن الآن . . تناولت الكسكسي و الرايب حتى شبعت ثم نهضت و توضأت و صليت الظهر أو العصر لست أدري ، لقد نسيت !! و أردت أن أغفو قليلا و طلبت من زوجتي ألا توقظني فإذا بها بعد قليل تنادني لتخبرني أن قارورة الغاز قد نفدت و قد أصرت على أن آتيها بواحدة أخرى في الحال ، ففعلت ذلك مكرها أخوك لا بطل ، عدت لأغفو ثانية فإذا بها تناديني مرة أخرى لتناولني رسالة وصلت بيتنا هذا الصباح ... طار النوم من عيني و أنا أشتم زوجتي في سري ... فتحت الرسالة فوجدت أن إدارة المعهد الذي يدرس فيه ابني تطالبني بالحضور لأمر يهمه . لماذا يا ترى ؟ إن ابني منضبط من البيت إلى المعهد و من المعهد إلى البيت , لا يخبش و لا يدبش و هو مقبل على دروسه بتفان غريب ، فهو يمضي كل الوقت إما في مراجعة دروسه في غرفته الخاصة و إما مع زملائه يتعاونون على فهم الدروس في المكتبة العمومية أو في بيت أحدهم . فأنا ربيته تربية حسنة ، و كل ما يطلبه أوفره له و لا أعتقد أنه فعل أمرا مشينا. و لا شك أنه مظلوم ، و لا ريب أن أستاذا أو أساتذة ظلموه. ذهبت زوجتي لتنام ، أما أنا ففتحت التلفاز بما أن النوم جافاني ، فصاحت بي زوجتي أن أغلق التلفاز و كفّ عن الضجيج و الأفضل لك أن تنام ، فطبقت تعليماتها حرفيا دونما نقاش ، فماذا يقول الميت أمام غاسله ؟؟!! و من الغد ركبت سيارة الأجرة قاصدا المعهد و قد سمعت أحد الراكبين يقول إن شخصا فاز بــ 120 مليار و لا شك أنه سيعيش سعيدا و أنه لن ينفق كل ذلك المبلغ و لو عاش الدهر كله . فقلت له : هذا غير صحيح ، فماذا سيفعل بوسخ الدنيا ؟ و إني لم أفهم إلى الآن لماذا يميل الناس كثيرا إلى الطمع و الفوز باللقمة الباردة ؟! و لو كنت أنا مكانه لوزعت كل المبلغ على الفقراء و المساكين و لشاركت في إنشاء مشاريع خيرية . فهل هو تعب و عرق من أجل الحصول على ذلك المبلغ ؟! نزلت من سيارة الأجرة و توجهت إلى المعهد و في طريقي اقتنيت قصاصة بروموسبور، فأنا مغرم بهذه المسابقة و أود أن أربح فيها حتى أسدد دينا عليّ و لو أني لا أفقه في كرة القدم شيئا و أطلب من أصدقائي أن يقوموا بتعمير تلك القصاصات .و صلت إلى المعهد فالتقيت بأحد الأصدقاء أمام الباب فرحب بي كثيرا و دعاني إلى شرب القهوة ، فذهبنا إلى أقرب مقهى فألفيناه مملوء بالتلاميذ و شاهدت ابني ـ الذي من المفروض أن يكون في مثل هذا الوقت بالمعهد يتابع دروسه ـ جالسا و أمامه شيشة تبدو مجوركة أغرتني بالإقبال على واحدة مثلها ، و قد حسدته على ما يعيشه من متعة ...لم يتنبه ابني إلي ، فشربت القهوة على عجل و عدت إلى البيت و قد تجاهلت الرسالة بعد أن اتضح لي أمرها في المقهى ....
تركني الثرثار واقفا ليلحق بشخص مرّ بنا وأنا أحمد الله كثيرا على مرور ذلك الشخص ـ الذي يرحم والديه ـ أنقذني من الصداع الفظيع و لكني دعوت له الله أن يكون في عونه ...
عدت يوما إلى البيت فداعبت خياشيمي رائحة كسكسي بالعصبان لذيذ جدا ، و إني أعشق هذه الأكلة و خاصة من يدي زوجتي الطباخة الماهرة التي يستدعيها الأقارب و الجيران لتطبخ لهم الأطعمة الفاخرة في مناسباتهم السعيدة أو الحزينة . و لا شك أني سأدعوك ذات مرة إلى بيتي حتى تتذوق كسكسي زوجتي اللذيذ ، و ستعاين على أرض الواقع مدى مهارتها في الطبخ و مدى إتقانها لهذا الفن العريق جدا . جلست و أخذت أشاهد إحدى القنوات الإخبارية و ما تعرضه من أخبار عن العراق و لبنان و إيران و فلسطين و إسرائيل و كوريا الشمالية . أين توجد كوريا الشمالية ؟ هل هي أبعد من فرنسا ؟ و هل هم روامة و قورّة أم مسلمون مثلنا ؟! و قد شاهدت لقطات جميلة من مقابلة في كرة القدم لست أدري إن هي من البطولة الفرنسية أم من إحدى البطولات الخليجية أم من أمريكا اللاتينية ، و أنا لا أعرف أ تسمى أمريكا اللاتينية أم أمريكا الجنوبية ؟؟!! شعرت بآلام شديدة في ساقي اليسرى و هي تؤلمني منذ مدة . وضعت زوجتي طبق الكسكسي أمامي و لكني سألتها : أين الرايب؟ فأنا لا أتناول الكسكسي إلا مع الرايب و قد تعودت على ذلك بعد أن نزلت ـ وأنا عازب ـ ضيفا على صديق يسكن مدينة أخرى و قد اقترح علي مثل تلك الأكلة . و قد كان هذا الصديق شخصية طريفة جدا يحبذ إيقاع أصدقائه في مقالب

تركني الثرثار واقفا ليلحق بشخص مرّ بنا وأنا أحمد الله كثيرا على مرور ذلك الشخص ـ الذي يرحم والديه ـ أنقذني من الصداع الفظيع و لكني دعوت له الله أن يكون في عونه ...
ـ ياسين الوسلاتي ـ

Comments
2 de 2 commentaires pour l'article 27379