المسار التوافقي ، هل يزال هو الحل ؟

طارق المنضوج
فرنسا
فرنسا
إذا نظرنا إلى المرحلة التاريخية التي تمر بها تونس ، على إعتبار أنها مرحلة تأسيس ديمقراطي ، مرحلة قطع مع خيارات الماضي الدكتاتوري ، الدعوة إلى التوافق لا تخرج عن أن تكون توجه صحي في الحياة السياسية .. أثناء المرحلة الانتقالية ، الدعاة إلى التوافق و إلى الحوار الوطني كانوا مجموعة تجمع أغلابية العائلات السياسية.. منذ إنتخابات 2014 ، التي هي بمثابة إستكمال لجزء من المسار الانتقالي ، قلة هم الدعاة إلى التوافق ، رغم أن كثير من مسائل المسار الانتقالي لا تزال عالقة، ... و خاصة أن مرحلة البناء الأولى لتونس الجديدة ، الجمهورية الثانية ، (الاصلاحات الهيكلية الكبرى) لا يمكن انجاحها كما يجب دون حوار وطني جدي ، ودون توافق الأغلابية العظمى من العائلات السياسية. ثم في رأي عملية التوافق لا تتنافى و المعارك الديمقراطية ، و إنما هو إلتقاء على ماهو أهم حتى تتخطى تونس الجديدة هذه المرحلة الصعبة بدون كثرة تعثر ..

رئيس حركة النهضة الاستاذ راشد الغنوشي ، لا يزال متمسك بخيار التوافق ، الاعلام من خارج تونس، كما كثير من الاعلامين على الساحة الوطنية يشيد ، يشيدون بتنازلات النهضة للوصول إلى دستور توافقي و في انجاح المسار الديمقراطي. الرئيس المرزوقي يدعو دائما إلى إحترام المؤسسات و إحترام الرئاسة و على رأسها رئيس الجمهورية .. تصريح الرئيس السابق اليوم يسحب البساط من تحت أقدام العديد من المتمترسن ببلتوات الاعلام المحلي .. الرئيس الباجي قائد السبسي دائما يذكر بأنه لا عودة إلى الوراء ، و أننا في دولة ديمقراطية .. العديد من قيادات النداء يعتبرون التحالف مع النهضة ، هو إحداث توازن سياسي على الساحة ، لا بد منه .. لا نشك في هذه النوايا ، لكن لا ترقى إلى دفع المكينة السياسية التونسية للإلتقاء حول مشروع مشترك موسع ، يمكن أن نعتبره إنتصار لإرادة التوافق في الساحة الوطنية .. هل تصريح المرزوقي اليوم هو دغدغة للبعض من الفاعلين السياسيين ليفسحوا له المجال لدخول ساحة الحكم بطريقة أو أخرى مساهمة منه و من حراك تونس الارادة ليكون شريك حول برنامج حكم معين ؟
تونس إلى أين ؟ و كيف السبيل إلى دفع البلاد نحو ديناميكية التغيير ؟ كيف أرى المشهد السياسي اليوم ؟
من بداية الثورة كنت كمواطن و لا أزال من الداعين و المدافعين عن المسار التوافقي .. مع مرور الوقت (وهو ، الوقت كان صعب على تونس المسار الديمقراطي، على تونس مسار الإصلاحات و التنمية ، على تونس المسار الأمني ، و لا يزال ) . و رغم جدية التهديدات ، كثير من الأحزاب لا تزال تؤمن بعقلية الإقصاء ، بعقلية الاستفراد بالحل و بالسلطة .
اليوم هناك قطب من الأحزاب تجاوز بعض العقليات الأحادية في التسيير و على رأسها الرباعي الحاكم . حلولهم المطروحة ليبرالية، مع بعض الفتات الموزع على بعض العائلات المعوزة و بعض الشباب العاطل عن العمل .. هذا التوجه إلى حد الآن لم يحدث القفزة المرجوة للاقتصاد التونسي . و ليس لهذا الخيار بداية ملموسة على مستوى الإصلاحات الكبرى. كل المنظومات العمومية لا تزال ترزخ تحت عقلية تسيير بروقراطية خانقة ، مع الكثير من سلبيات سوء التصرف ، التي ترقى إلى الفساد .. و لا على مستوى تحسين الحياة اليومية للمواطن . مثلا المستشفيات لا تزال في حالة يرثى لها ، رغم بعض الألات الجديدة ، من سكنار و و ... لبعض مستشفيات الجهات الداخلية. الحملات الصحية التي تقوم بها بعض جمعيات الأطباء تدل على أن الحلول الجذرية أو الدائمة لا تزال بعيدة . الكثير منا لا يعرف كثيرا عن برنامج وزارة الصحة لثلاث أو أربعة أعوام القادمة . المدارس التونسية ، في حالة يرثى لها ، كما الكثير من المعاهد ، زد على ذلك الأزمات بين النقابة و الوزارة تأتي من حين لآخر لتبعث برسائل سلبية إلى التلميذ ، إلى الأولياء .. السوق ، الجميع يعرف كيف حالته، رغم المجهودات في محاربة التجاوزات التجارية و محاولات الحكومة للسيطرة على الأسعار.. قطاع السياحة لا نتكلم عنه .. الحل يبدأ بخلق فلسفة جديدة للسياحة في تونس ، يجد المواطن موقع قدم في هذا القطاع الذي عزل ، أو نسي ، السائح الداخلي .. مع احزاب الرباعي نحن أمام تمثيلية نيابية تفوق السبعين في المائة ، لكن هل تمثل 70% من المجتمع الذي له بطاقة إنتخاب ؟ نحن أمام تحالف لا يرقى إلى التوافق و لا إلى القدرة ليجمع حوله طاقات جديدة من المجتمع المدني أو احزاب أخرى ليس لها تمثيل يرقى ليكون كتلة في مجلس نواب الشعب، أو حتى من خارج التمثيل النيابي ..
هناك الجبهة كقطب يساروي مختلف المشارب الفكرية ، لكن يبقى داخل العائلة اليسارية الراديكالية ، لا يؤمن بمعادلة التوافق مع أحزاب التوجه الليبرالي ، يطرح إلى اليوم حلول تأميم الكل، تجميد الديون و إخضاع الكل لعقلية واحدة، عقلية الاقتصاد القومي كما يقول الناطق الرسمي بإسم الجبهة حمة الهمامي في عدة مرات ، و خاصة أثناء الحملة الانتخابية 2014 .. بمعنى حل يبدو شجاع و راديكالي لكن ليس له أدنى عامل موضوعي ليتحقق، في حالة الاقتصاد المفتوح التي تعيشها تونس. بمعنى أن أطروحات الجبهة ترقى لأن تكون ، حل عالم الكوكب الآخر ، كما يصفه الكثير ..
مجموعة محسن مرزوق و كل أحزاب يسار التجمع .. ''ييبلبزون'' من هنا و هناك ، خطاب ترون كيف هو ، حلول يصفها العامة بالإماراتية، نسبة إلى المثال المصري. الذي يفهمه عامة الناس من خطابات محسن مرزوق و البعض من الذين معه ، أنه اقصائي، و في كل الحالات توجهه يرهن تونس 100% في ال 100% في يد الناشط الخارجي ، هذا من جهة ، و من، جهة أخرى تسيير البلاد اجتماعيا و ثقافيا عبر علمانية متوحشة ..
للأمانة ، يجب أن ننبه أن مع الرباعي الحاكم ، هناك خوف لكثير من الناس ، أن الناشط الأمريكي ، مفتوحة له الأبواب.. و عبر موقع تونس في حلف الناتو، السيادة الوطنية في خطر .. و على الحكومة توضيح عدة أشياء للرأي العام .. التعاون في الحرب على الارهاب ، لا يعني رهن البلاد لشروط خارجية، تمليها قوة عظمى أو صندوق النقد الدولي ، أو البنك الدولي .. الشعب يريد نوع من السيادة على القرار الوطني .. و موقف شعبنا من ارادات الرجوع إلى الوراء، و تمسكه بإنجاح المسار الديمقراطي و موقفه من الارهاب الداعشي أو غيره، و كرامة التونسي ... كل هذا يفرض على السياسي أن لا ينزلق في هلوسة التعاون على محاربة الارهاب ، و ينسى السيادة الوطنية .
هناك على الساحة مجهول : هذا المجهول اليوم هو حراك تونس الإرادة ، رغم ما نعرف عن حزب المؤتمر في السابق ، لكن اليوم ، إلى حد الآن ، لا نرى ما يطرحه كمشروع حكم و كمشروع مجتمع ... أو كإرادة توافق أو نوع من الإلتقاء مع الرباعي الحاكم أو غيره ، ليكون الحراك شريك في عملية تقوية البلاد فعليا و ليس ثرثرة فقط .
هناك أيضا على الساحة غولان:
- إتحاد الشغل ، منظمة عريقة ، لها مساهمات تاريخية تتعدى النضال النقابي، و هي غنية أن التعريف للمواطن التونسي، كما صيتها يتعدى حدود الوطن . لكنها ليوم تضع نفسها في موضع تساؤل للكثير من أبناء الشعب ، و قادة الاتحاد أنفسهم تطرقوا عدة مرات لهذا الوضع .. الاتحاد لما يقف يخيف ، و من هنا تأتي كلمة الغول .
- إتحاد منظمة الأعراف ، كذلك هي منظمة تجمع رجال العمال ، لها اسهامات كثيرة ، لكن بعد الثورة وضعت نفسها أيضا في موقع السياسة ، و الكثير يحمل نحوها صورة التدخل في السياسة الحزبية ، و من هنا كلمة الغول . تبقى مشاركة منظمة الأعراف و الاتحاد كرعاة في الحوار الوطني ، عملية جد إيجابية ، ثم كان هناك تتويج عالمي بجائزة نوبل السلام .
لكن غير واضح للمواطن مدى إيجابية مساهمتهم في تفكيك معضلات المرحلة، خاصة منها الاقتصادية و الاجتماعية .. كلما أحدثوا خطوة إلى الأمام ، إلا و تبعتها خطوات إلى الوراء ، و الأمثلة كثيرة (كثرة الإضرابات ، المماطلة أثناء الحوار الاجتماعي، الرجوع عن الاتفاقيات ) .. النظرة السلبية لمنظمة الأعراف ، كما للإتحاد ، موجودة ، و مع الأسف تجاهلوها، أو تجاهلوا الشعب الذي يحملها نحوهم .. الاتحاد العام التونسي للشغل و منظمة الأعراف ، لا يحملون مشاريع سياسية حزبية ، لكن الكثير الكثير من المواطنين يرون عكس ذلك ..
هناك القطب الغائب أو الفاقد للوجود السياسي الفاعل ( التكتل ، المسار -ربما يحسب على مجموعة مرزوق -، لكن لحد الآن يبقى مستقل ، الاشتراكيين الديمقراطيين ، التيار الديمقراطي ، التحالف الديمقراطي، الجمهوري، ...) ، كل هذه الأحزاب أعتقد أنها في فترة معينة ستلتقي بحزب أغلبي -قوي - ، النهضة أو النداء ، و ربما مستقبلا بحزب ثالث سيكون ذا شعبية ، لكنه اليوم في حالة ولادة . الواقع يقول أن هذه الأحزاب الصغرى، المذكورة سالفا ، اليوم هي غير موجودة .
هناك المجموعة المشهورة بالمشاغبة ، حزب الهاشمي الحامدي ، كل الأحزاب لا تريد التحالف معه رغم تمثيلياته النيابية . و نحن أغلبية الشعب لا نعرف حقيقة ما يريد ، و مدى قدرته على تنفيذ ما يريد ؟ و لست أدري لماذا حزب النداء أو النهضة لا يريدون العمل معه ؟؟؟؟ هذا لغز ، لابد من حله .
أما المجتمع المدني فهو يصارع ، في قوى الردة و الإنحراف عن المسار الديمقراطي، عبر مؤسساته وجمعياته ، يحاول أن يدفع نحو الشفافية ، نحو الإرتقاء إلى آليات الحوكمة الرشيدة .. لكن العقلية الغالبة على الساحة السياسية (من احزاب في الحكم و بعض احزاب المعارضة و على رأسها الجبهة ) لا تذهب إلى الإستفادة من أطروحات المجتمع المدني في كثير من الميادين ، مع الأسف أيضا ..
هل أصبحت الدعوة إلى التوافق ، مجرد تعبير عن إستعداد نفسي للإنفتاح ، لا يزال في مقام النوايا الطيبة و لا يرقى إلى التفعيل على الواقع ؟ .. نحن نعلم أن النية الطيبة شيء حسن ، لكن ما توكلش الخبز .. و الدليل على ذلك ورقة رئيس الجمهورية في المصالحة الاقتصادية و المالية .. التي تكلم عنها الكثير أنها لا ترجع بالنفع على الانسان التونسي و اقتصاده . لكن الرئيس نيته طيبة كما يقول وهو لا يزال متمسك بها ، كما هي.. و هذا خيار أحادي، عقيم، مثله مثل الحلول التي تطرحها الجبهة الشعبية.. حلول الكوكب الآخر..
رغم النجاحات الأمنية، يبقى الإرهاب فاعل قوي يهدد كما يريد .. يهدد الجميع ، بدون استثناء .. غدره ممكن في كل لحظة .. و غرابة أن لا يذهب الجميع، أغلب العائلات السياسية ، إلى التوافق على السياسات الكبرى و الاصلاحات الكبرى ! هل خرجت تونس من كوكب الخطر المحدق ؟ هل نترقب أزمة إقتصادية أشر من الموجود ، و ضربات ارهابية أعظم مما حدث حتى نفهم ؟
حزب نداء تونس و حزب حركة النهضة نجحوا في إحداث توازن سياسي، نجحت أربعة احزاب في إحداث تحالف حكم ، لكن الملحمة ضد التهميش ، ضد الفساد و آلياته، ضد الاقتصاد الموازي ، ضد التهرب الجبائي ، الحرب ضد الارهاب لا تزال حامية الوطيس ... إذا ما خلصنا إلى أن الدعوة إلى التوافق، هي نقش في الماء، و حلم غير ممكن، رغم كل التهديدات.. ما هو الحل إذا ؟
Comments
5 de 5 commentaires pour l'article 122922