بن قردان ترفض ان تكون الموصل

بقلم: شكري بن عيسى (*)
لاول مرة تقريبا يكون التعاطي الميداني والحكومي السياسي والاتصالي مقبولا الى حد جيد؛ بالرغم من اعلان القوات المسلحة والداخلية متأخرين عن حقيقة الوضع وتقديم بعض الارقام، فقد كان التحرك الحكومي جيدا في عمومه، انطلاقا من اجتماع رئيس الوزراء بخلية الازمة وتكليفه وزيري الداخلية والدفاع الانتقال لمكان الهجوم المسلح، وانطلاقا من اتصاله برئيسي الجمهورية ومجلس النواب، والاعلان بالوقت عبر الصفحة الرسمية للحكومة عن كل التحركات التي كانت مطمئنة، ومقدمة لمعلومات يحتاج لها الشعب في كل الجهات وخاصة على ارض المواجهة بن قردان.
اما اتصال السبسي عبر اذاعة تطاوين فقد كان اختيارا مناسبا، واكد انه قريب من حقيقة الاوضاع على الميدان وزاد في الاهتمام بتنقله لغرفة العمليات مباشرة للعوينة، وهكذا سجل رئيس الحمهورية حضورا جيدا في عمومه برغم ان المطلوب منه كان اعلى في وضعية تأزم عميق، ولكن ربما صحته وحالته البدنية قد تشفع له بالتنقل المباشر على عين المكان، الذي كان مطلوبا خاصة من القائد الاعلى للقوات المسلحة، وحتى يتم التعامل بنفس الطريقة والشكل عند استهداف نزل امبريال مرحبا في سوسة في جوان الفارط، خطابه على كل كان مطمئنا ورافعا لمعنويات الامن والقوات المسلحة والديوانة، والشعب الذي اعتبره سندا كبيرا في هذه الفترة.

والتنسيق واللحمة بين الاطراف المسؤولة كان مقبولا في عمومه، والصلاحيات الدستورية والسياسية كانت محترمة لولا انحراف السبسي بخصوص اشارته لـ التدابير الاستثنائية المنصوص عليها بالفصل 80 للدستور، الذي لا تتوفر شروطه باعتبار عدم وجود المحكمة الدستورية، وهو امر في كل الحالات تداركه بقوله ان الامر لا يستدعي ذلك، واكتفى بمجرد اعلان حظر التجول في مدينة بن قردان الذي يستمر من السابعة الى الخامسة صباحا.
وقد يشفع للقوات الامنية والعسكرية تاخرها في اعلان حقيقة الوضع وتقديم ارقام، في انتظار تحقيق انجاز وتقدم ميداني تطمئن به الراي العام، كان جيدا في عمومه وارتقى الى مستوى نوعي، خاصة وان عدد المسلحين كان عاليا وبالعشرات وقد يصل الستين نفرا، ولم يكن في بداية العملية متوفر ما يكفي من المعطيات عن العدد والتمركز والعتاد والخطة ومجرياتها والاهداف والتكتيكات، ولذلك ربما ارتبكت الاطراف المعنية في الاعلان عن تقدم عمليات مجابهة الهجوم متعدد المحاور، والقضاء في وقت وجيز عن اغلب العناصر (الى حد كتابة الاسطر 36 قتيل والقبض على 7 حسب بيان الداخلية والدفاع) مثل انجازا هاما بكلفة بشرية تعتبر ضعيفة (استشهاد 18 وجرح 15 بين قوات نظامية ومدنيين)، والاهم هو احباط المخطط الخطير باحداث الفوضى والرعب الذي يمكن ان يدخل المنطقة في ظلام الجماعات الارهابية.
ويحسب خاصة لمتساكني بن قردان حضورهم وتصميمهم على رفض ما اقدم عليه المسلحون من احداث الانهيار، ورفضوا مناداتهم لهم من المسلحين بانهم سيخلصونهم من جور الديوانة والامن، موجهين رسالة قطعية اولى بان التجاوزات الادارية يمكن اصلاحها عكس احتلال ارضهم ووطنهم، من جهات ارهابية قد تذهب بحرياتهم وحقوقهم كلية، ورسالة لحكومتهم بان جهتهم تمثل طليعة للدفاع عن الوطن، وتستحق اكثر اهتماما وعناية وتنمية واعتبارا بعد ان اعلنوا احباط سقوط مدينتهم كما تم مع الرقة والموصل، ونالهم شرف ذلك الذي سجله التاريخ باحرف خاصة مبرهنين ان بن قردان لن تكون بحال حاضنة للفوضى والبربرية والتوحش.
المخطط فعلا كان جاهزا لاحداث الصدمة وايقاع المدينة تحت قبضة الفوضى وحالة الظلام، ويخطىء من يعتقد ان الامر كان مجرد عمل ارهابي عابر لـ تسجيل نقاط ، وزيادة عملية تنضاف لعمليات باردو وسوسة ومحمد الخامس، وضرب الاقتصاد المخطط له هذه المرة في حقيقة الامر كان ابعد ويمس كيان الدولة ذاته، بالسيطرة على المنطقة او في الحد الادنى اخراج المنطقة عن سيطرة الدولة بادخالها في حكم الرعب، وهو الامر الذي تلام عليه السلطة الامنية والسياسية لماذا لم تحسب له ما يلزم من خطط وتحشد له ما يكفي من عتاد وقوات لمجابهته والتوقي من وقوعه، ولم يكن مقبولا منذ البداية السماح بحصول هجمات في ثلاثة محاور رئيسية، على مستوى منطقتي الامن والحرس والثكنة العسكرية.
والنتائج فعلا كانت ستكون كارثية ومطابقة لما خطط له المسلحون المهاجمون، وفعلا هذه هي الثغرة الكبرى التي اوصلتنا لما حدث، اذ تاتي بعد ثلاثة ايام فقط على عملية اولى بدت غريبة في اطوارها، اثر تسلل سيارات رباعية الدفع من الحدود الليبية، وهنا يستوجب طرح اسئلة عميقة عن غياب الاستعلام والتحضير في الخصوص، خاصة وان تصريحات قادمة من مصراطة بعد الضربة الجوية الامريكية تتحدث عن تجهيز 200 شخص للهجوم على بن قردان، ولماذا لم يتم ارسال تعزيزات كافية وتجهيز خطط دفاعية ورصد للتحضر لهجوم منتظر، والتساؤل ايضا عن حقيقة فعالية الساتر الترابي الذي تم بناؤه بمئات المليارات، وعن حقيقة التعاون الاستخباراتي مع امريكا والحلف الاطلسي والدول الاوروبية التي تمتلك استعلامات قوية في ليبيا، خاصة وانها تمتلك معلومات دقيقة عن كل التحركات..
وهو ما يثير في مستوى ثان مخاوف حول اندراج العملية في اطار مخططات دولية، ضمن استراتيجيات الارهاب المعولم الذي يضع البلدان تحت ارباك القوات الارهابية، من اجل طرح مساعدات الدول الكبرى خاصة في تركيز قواعد عسكرية او التدخل عبر التدريب والتكوين او زرع منصات استعلاماتية، يمكن ان تتركز ويصعب فيما بعد التخلص منها ودحرها، والنماذج في العالم عديدة ومتعددة، وما يعمق الانشغال هو حصول هجوم اخر الاسبوع بـ40 مسلح على احد جهات جلمة (دوار الرحايمية - زغمار) ، سلبوا من عديد السكان المؤونة واللباس والاغطية، دون رد وزجر كاف..
الحقيقة ان البلد بعد الهجمات الارهابية التي حصلت العام المنقضي، لم يعد يحتمل ضربات جديدة، وكان لا بد من اعداد خطط دقيقة ومضبوطة لمواجهة التهديدات، خاصة وانه في كل مرة يكون وراء الهجمات الارهابية اخطاء امنية بدائية او اهمال واضح، واذ نحمد الله ان الهجوم الاخير مر في الحد الادنى من الضرر البشري والسياسي والاقتصادي، وتلافينا الادهى، فان الضرر المسجل في حده الادنى يظل ثقيلا في ميزان الوضع الحالي الدقيق ومتطلباته الملحة المرتبطة بالاستقرار الامني، خاصة وان في مقابل خطر الارهاب المتصاعد يبقى خطر انعدام التنمية وتصاعد البطالة وانتشار الفقر عال القيمة، ولا يقل عن الاول خاصة وانه احد العوامل المباشرة التي تغذيه وتحضنه بل وتنتجه!!
(*) قانوني وناشط حقوقي
Comments
22 de 22 commentaires pour l'article 121699