حركة النهضة التونسية و الخيار الصعب

عبد الجليل الجوادي
ربما شكلت نتيجة الإنتخابات التشريعية- و إن لم تكتمل صورتها –مفاجأة صاعقة للكثير من متابعي المشهد السياسي في بلادنا. و ربما أيضا فتحت أبواب الأمل أمام البعض الآخر للرجوع إلى السلطة من بوابة الإنتخابات بعد أن فشلت جميع محاولات الانقلاب و الالتفاف البارد على أهداف الثورة تحت مسميات مختلفة و غايات متآلفة.
و أيا كانت النتيجة فهي في تقديري منطقية و منتظرة بعد سلسلة من التنازلات التي قدمتها حركة النهضة حين كانت الحزب الأول على قائمة المترشحين في انتخابات سنة 2011.

تنازلات رأى فيها شق من المحللين السياسيين ضربا من الخضوع و الذل و المهانة و صنفها آخرون ضمن المراوغات السياسية و المناورات التي نجحت من خلالها الحركة في إفشال محاولات الانقلاب عليها و قطعت الطريق على جميع المتآمرين، في حين استثمرها خصومها السياسيون و على رأسهم الندائيون، في تشويه صورتها و تخوينها و تخويف الناس منها و إقناعهم بعدم قدرتها على إدارة شؤون البلاد و بأنهم الأقدر على ذلك و الأصلح.
و قد يصح القول بأن هذا المسار نجح إلى حد ما في تحقيق أهدافه بما سجلته شعبية النهضة من تراجع ملحوظ حتى مع حلفائها في المرجعية الفكرية و الخلفية المذهبية. هؤلاء الذين كانوا يأملون في صعود حركة النهضة إلى سدة الحكم تحقق مطالبهم المركزية في تطبيق الشريعة و لم تكن لهم قدرة على استقراء الواقع السياسي للبلاد، فرأوا في بعض مواقفها ردة و انقلابا على المبادئ و القيم.
فهي لم تفلح في إرضاء خصومها و لا نجحت في إقناع حلفائها فخسرت مع هؤلاء و مع هؤلاء.
و الآن، تواجه النهضة خيارا صعبا قد يعصف بما تبقى من شعبيتها و يهوي بها إلى قاع عميق إن لم تحسن الاختيار في تقرير مصيرها.
فإما أن تختار لنفسها مقعدا في صفوف المعارضة مع بعض المقاعد في مجلس النواب و تنكفئ على نفسها في مراجعة جدية لجميع مواقفها و مناهجها و سياساتها ضمن برنامج نقد ذاتي يؤسس لرؤية مستقبلية و تصور شامل لمتطلبات المرحلة القادمة. لاسيما و أن الفرصة لم تتح لها من قبل حين وجدت نفسها تنخرط قصرا في لعبة سياسية خطرة غير مأمونة النتائج بعد سنوات من الجراح و العذابات و التهجير و القمع و الترويع الممنهج..و إما أن تدخل مجددا إلى معترك الحياة السياسية و تنخرط في تحالفات قد تضعها على نفس الخط مع أعداء الماضي.
فمن الغباء حقا أن نتصور أن حزب النداء الذي تكون بعيد الثورة، قد استطاع أن يسجل حضوره بكل هذا الزخم الانتخابي لو لم يكن مجرد امتدادا لحزب التجمع المنحل. قد تختلف المسميات و تختفي شخصيات و تبرز أخرى و لكنها نفس المكنة القديمة. تلك المكنة التي تدخلت لتنقذ الحزب الاشتراكي الدستوري القديم و أخرجت لنا نسخة مستنسخة منه أطلقوا عليها اسم التجمع الدستوري الديمقراطي، هي ذاتها المكنة التي ضلت تدور و تدير الأحداث خلف الستار لتستنسخ لنا حزبا جديدا أسمته نداء تونس و قامت برسكلة نفس القيادات و أخفت وجوها منها اعتبرتها منتهية الصلاحية و أبرزت وجوها إلى المشهد السياسي و استعملت الإعلام الفاسد في تلميع صورتها و تقديمها بديلا عن كل البدائل. و لا يخفى على ذي عقل ما سعى له هذا الإخطبوط الرهيب بما يملك من مال و رجال و وسائل، من عمليات مبرمجة سلفا لتشويه أطراف سياسية و شيطنتها و إدخال البلاد في دوامة من العنف و الإرهاب ليطرح نفسه مجددا بديلا لحل كل المشاكل التي هي أصلا من صناعته.
أنا في تقديري أن تحالف النهضة مع حزب النداء، انتحار سياسي بأتم معنى الكلمة و نتائجه محسومة لا محالة.
فالخلاف بين الحزبين هو خلاف جوهري لا مجال فيه لأي نوع من التوافق و المعركة بينهما معركة وجود خاصة بالنظر إلى ماضي حزب (النداء) الذي سعى عبر عقود من الزمن إلى اجتثاث حركة النهضة و إخراجها نهائيا من المشهد السياسي بمحاكمة قياداتها و التنكيل بهم و تهجيرهم و تجويعهم و ترويع عوائلهم و مطاردتهم بالداخل و الخارج.
من الغباء فعلا أن نصدق أن من تربى على منطق الحزب الواحد و الحاكم الواحد المتفرد بجميع السلطات و من نظر للدكتاتورية آمن بالقمع وسيلة في التعامل مع خصومه، قد ينقلب يوما ديمقراطيا يؤمن بالتشاور و يقبل بالرأي المخالف.
و من الغباء أيضا الانخراط في هاته اللعبة السياسية الخطرة بعد الخروج منها تحت الضغط بالنظر لما تشهده البلاد من صعوبات اقتصادية و اجتماعية لا تستطيع أقوى الحكومات مواجهتها فما بالك بشتات غير منسجم و لا متوافق...
و يبقى القرار لحركة النهضة في أن تختار بين أحلى المرين و أن تراهن و لو مرة واحدة على اختيار الشعب من خلال استشارة موسعة عبر جميع قواعدها بعيدا عن منطق الزعامة و القرارات الفوقية المسلطة.
Comments
7 de 7 commentaires pour l'article 93954