عودة على منطق الإسقاط والوصاية والاستعباد

منجي المازني
فاجأنا المخلوع زين العابدين بن علي ذات 7 نوفمبر بانقلاب وببيان شهير قال فيه فلا مجال في عصرنا إلى رئاسة مدى الحياة. ولا خلافة آلية لا دخل للشعب فيها. وسنحرص على إعطاء القانون حرمته. فلا مجال للظلم والقهر...
فاجأنا المخلوع زين العابدين بن علي ذات 7 نوفمبر بانقلاب وببيان شهير قال فيه فلا مجال في عصرنا إلى رئاسة مدى الحياة. ولا خلافة آلية لا دخل للشعب فيها. وسنحرص على إعطاء القانون حرمته. فلا مجال للظلم والقهر...
ولم تمرّ على ذلك سنتان، وفي أول امتحان انتخابي ظهر للناس زيغه وكذبه ونفاقه. وكان من تداعيات هذه الفضيحة الإنتخابية أن قام المناضلون والناشطون السياسيون يتقدّمهم مناضلو الحركة الإسلامية بعديد التحرّكات والمسيرات والمظاهرات والاحتجاجات. ولغاية قمع وإخماد الحركة الاحتجاجية والثورية في البلاد زجّ المخلوع في التسعينات من القرن الماضي بأغلب المنتفضين والمحتجّين ،وخاصّة مناضلي الحركة الإسلامية، في السجون.
ثمّ لجأ إلى انتهاج سياسة الكذب والخداع ومنطق الإسقاط ومنطق والوصاية ومنطق فرعون المشار إليه في القرآن الكريم : ما أريكم إلاّ ما أرى وما أهديكم إلاّ سبيل الرشاد ، يا أيها الملأ ما علمت لكم من إلاه غيري ، فأرسل فرعون في المدائن حاشرين إنّ هؤلاء لشرذمة قليلون وإنّهم لنا لغائظون وإنّا لجميع حذرون .
لذلك فقد خاطب المخلوع الشعب قائلا ما معناه : أيها الناس إنّ هذه الجماعة وهؤلاء القوم هم قوم متطرّفون ومفسدون في الأرض وإرهابيون ومتحجّرون ومنغلقون على أنفسهم وغير منفتحين ولا يمتّون إلى الإسلام بصلة. وإذا لم تحاصروهم فسوف يعملون على إرجاع هذا الشعب إلى عصر الظلمات وإلى ما قبل التاريخ. وسوف يعملون على التضييق على حرّية المرأة ومحاصرتها وإرجاعها إلى البيت بعد أن تمّ تحريرها. فإيّاكم ثمّ إياكم أيها الناس أن تصدّقوهم وأن تسمعوا لهم. وبهذا الخطاب سمح المخلوع لنفسه بالتحدث باسم الشعب التونسي عوضا عنه. كما أنّه سمح لنفسه بالتحدّث باسم العلماء والفقهاء بدلا عنهم وبتحديد المتطرّفين من غير المتطرّفين والمسلمين من غير المسلمين. أي أنّه سمح لنفسه أن ينتصب مفتيا في شؤون الدين بما يعني مصادرة حقّ العلماء والفقهاء في ذلك.
وبعد أن حدّد للناس الإشكال قام باقتراح الحلّ حيث أكّد أنه الوحيد الكفيل بالوقوف صدّا منيعا في محاربة هؤلاء وأنّه القادر على تخليص الشعب منهم ومن إرهابهم وتطرّفهم. ولكي يمضي في مهمّته هذه خاطب الناس قائلا : لا بدّ وأن تناشدوني للترشح للانتخابات وأن تنتخبوني طوعا أو كرها. فالمهمّة الأساسية التي حدّدها بن علي لنفسه أو المهر الذي سيدفعه مقابل الإمساك بزمام الرئاسة مدى الحياة هو القضاء على الحركة الإسلامية والزّجّ بمناضليها في السجون.
هذا المنطق الإقصائي ومنطق الإسقاط لم يفلح في تغيير قناعات الناس ولا في إقصاء فئة واسعة من الشعب رغم الترهيب والتخويف والتعذيب والنفي والتشريد والملاحقات ورغم انتهاج سياسة تجفيف المنابع. بل العكس هو الذي حدث حيث ثار الشعب عل الدكتاتور وفرّ المخلوع إلى منفاه.
وفي أول انتخابات شفافة ونزيهة في تاريخ البلاد أجريت بعد الثورة، أكّد الشعب أنّه في مستوى المسؤولية وعلى درجة كبيرة من الوعي السياسي وفي مستوى قرار صنع القرار وأنّه يستطيع أن يقرّر مصيره بنفسه من دون إسقاطات ومن دون تدخّل من أحد. كما أنّه أكّد بذلك حسمه في مسألة الهوية وأعلن لكل الطيف السياسي ولكلّ العالم أنّه شعب مسلم ومعتدل وأكّد أيضا أنّه صوّت للبرامج التنموية ولم يصوّت للبرامج وللخطابات الاستئصالية ولكلّ أنواع الإسقاطات.

في مطلع الأسبوع الجاري وفي معرض حديثها في برنامج ناس نسمة قالت بشرى بالحاج حميدة ما عدى حزب نداء تونس فإنّه ليس هناك أي حزب في تونس مطلقا قادر على إقامة دولة المواطنة والمؤسّسات . تصوّروا أيها الناس أنّ حزب نداء تونس الذي خرج من رحم التجمّع الدستوري الديمقراطي (الذي أوصل البلاد إلى حافّة الإفلاس الاقتصادي والأخلاقي والذي ثارت عليه الجماهير وطالبت بحلّه وكان لها ذلك) هو الحزب الوحيد والأوحد، في نظرها القادر على بناء دولة المواطنة والمؤسّسات !!! أي أنه أصبح اليوم الخيار الأمثل للتونسي مثلما كان التجمّع وبن علي هما الخيار الأمثل للتونسي في العهد السّابق وهو ما يعني وكأنّنا لم ننجز ثورة.
كما أكّدت بشرى بالحاج حميدة في ذات السّياق أنّ حركة النهضة تطمح أن تعود بالشعب إلى الوراء وإلى عهود الظّلام والجهل والتطرّف وإلى عهد الوصاية والإنغلاق وإلى دفع أبنائنا وبناتنا إلى الانقطاع عن التعليم. وأضافت أنّ هذا الحزب تسلّم الحكم لقيادة البلاد لمدّة سنة فقط ولكنّه تمسّك بالسلطة وهيمن على البلاد ولم يخرج من الحكم إلّا بضغط من الشارع. بما يعني أنّ الشعب التونسي في صورة ما إذا انتخب هذه الحركة من جديد فإنّها ستتمسّك بالحكم ولن تفرّط فيه إلاّ تحت ضغط ثورة ثانية ! ؟
فبعد مرور حوالي 4 سنوات على الثورة و3 سنوات من الانتخابات ومن معايشة الانتقال الديمقراطي كنّا نظنّ أنّ كل الأحزاب والحركات السياسية قد قامت بما يشبه التربّص والبروفة في مجال الممارسة الديمقراطية وتدرّبت وتمرّست على ثقافة الحوار والتعايش السلمي وسياسة القبول بالآخر مهما كان مختلفا وأضحت اليوم جاهزة تماما للانخراط في مجتمع التعدّدية الحزبية. إلاّ أنّه تبين من خلال الممارسات اليومية أنّ عديد الأحزاب والرّموز الاستئصالية لا تزال تحنّ إلى الاستبداد وإلى ممارسته ولازالت تحنّ إلى الاستئصال وإلى الإسقاطات والقوالب الجاهزة التي لفظها الشعب في أوّل انتخابات ديمقراطية في تاريخ البلاد.
ورغم أنّ هذا الشعب قد فجّر ثورات الربيع العربي فإنّ بعض الأحزاب لا تزال تعتبره لم يبلغ سنّ الرشد بعد ولا تزال تستدعي منطق الوصاية وتمارسه عليه ولا تزال توظف الديمقراطية والحرّية التي نعيشها إلى استدعاء واستحضار الاستبداد والاستعباد وكلّ الممارسات الاستبدادية.
Comments
7 de 7 commentaires pour l'article 91723