تأملات في دبلوماسية الامن القومي التونسيّ بعد الثورة

<img src=http://www.babnet.net/images/6/min52.jpg width=100 align=left border=0>


أحمـد بن مصطفـى (*)

إن المتأمل في السياسة الخارجيّة التونسيّة ،يلاحظ أن الدبلوماسيّة التونسيّة لم تكن مهيأة للتعاطي مع التحوّلات والهزات الكبرى التي أفرزتها الثورة في المحيط العربي القريب والبعيد وخاصة في ليبيا المجاورة حيث تدهورت الأوضاع بنسق سريع نحو حرب أهليّة سرعان ما استغلتها الدول الغربيّة والحلف الأطلسي لشن حملة عسكريّة أدت الى اسقاط النظام ، مما حوّل ليبيا الى بؤرة توتر وعدم استقرار ومصدر أساسيّ لتهديد أمن تونس ودول المنطقة .

كما تكرر نفس السيناريو في سوريا بمجرد اندلاع الاحتجاجات المناهضة للنظام ،بوقوف المعسكر الغربي الى جانب الحركات الدينيّة المتطرفة التي سعت وتسعى الى اليوم ،بدعم من تركيا وبعض الدول الخليجيّة الى إسقاط الرئيس بشار الأسد في إطار صراع جيو استراتيجي على المصالح والنفوذ مع المحور الايراني السوري المدعوم من روسيا .



وهكذا تصدّرت قضيّة الأمن القومي التونسي منذ البداية مشاغل واهتمامات الحكومة الانتقاليّة الأولى ، كما فرضت نفسها على رأس أولويات الحكومات المتعاقبة بعد رحيل النظام السابق ، تزامنا مع بروز الحركات الدينيّة كطرف فاعل في الساحة السياسيّة التونسيّة و العربية في ظل حكومات الترويكا مما هيّأ الأجواء لحركات السلفيّة الجهاديّة وعلى رأسها أنصار الشريعة للتموقع سياسيا وتنظيميا وعسكريا ، ثمّ الدخول في صدام مسلح مع الدولة التونسيّة ، مستغلة حالة الفوضى الأمنيّة بليبيا وشبكات الدعم الداخليّة والخارجيّة ، المستندة الى تحالفات دوليّة في محاولة منها لتفويض النظام والاستيلاء على السلطة بتونس.
وعلى صعيد متّصل أضحت تونس محط أنظار العالم ومقصدا للقوى العظمى ولأصحاب النفوذ في المنطقة العربيّة والمغاربيّة والمتوسطيّة ، المتطلعين لغور أسرار هذه الثورة المفاجئة واحتواء تبعاتها السلبيّة المتوقعة وتوجيهها بما يخدم المصالح ويعزز مواقع السيطرة والهيمنة السياسيّة والاقتصاديّة . وسأحاول في إطار هذا المقال ، أن أسلط الأضواء على كيفيّة تعاطي السلطات الوقتيّة المتعاقبة على رأس الدولة بعد الثورة ، مع هذه التحوّلات والتحديات وذلك من زاوية نظر تقييميّة لمدى تطابق المواقف والسياسات المتبعة مع مقتضيات المصلحة الوطنيّة و الدفاع عن الوطن و امنه و سيادته ازاء التهديدات و الاطماع المحدقة به .
كما سيشمل هذا الرصد كافة الملفات ذات الصلة و منها خاصة مدى تقيد الدبلوماسية ببنود الدستور في ما يتعلق بالحفاظ على السيادة الوطنيّة السياسيّة والاقتصاديّة وتفعيل العلاقات الدوليّة لتونس وعلاقات التعاون الخارجيّة بما يرسخ انتماء تونس المغاربي والعربي والإسلامي ومراجعة السياسات الاقتصاديّة واتفاقيات الشراكة مع الإتحاد الأوروبي بما يخدم الأهداف السامية التي تأسّست عليها هذه الشراكة وهي بناء فضاء متوسطي للسلم والأمن والاستقرار والتنميّة المتبادلة لدول الضفتين الجنوبيّة والشماليّة للمتوسط .
أما المحور الاخر لهذا الرصد للسياسة الخارجيّة التونسيّة ، فسيخصص لإلقاء نظرة مقارنة بين الخيارات المتبعة بعد الثورة وسابقاتها لنخلص الى ان كافة الحكومات المتتالية على راس الدولة ظلت وفية لسياسات النظام السابق بالنسبة لجل الملفات الهامة المتعلقة بالتعاون الدولي و بالمصالح الوطنيّة العليا ، ومنها علاقات تونس مع حلفائها الاستراتيجيين وشركائها الرئيسيين في أوروبا وأمريكا وآسيا .
و سنركز في هذا الجزء الاول على قضية الامن القومي السياسي و الملفات المتفرعة عنه.

تعدد التهديدات الموجهة للامن القومي التونسي :
لم يسبق أن تدهورت مقوّمات الأمن والاستقرار في الداخل و في المحيط الجغراسياسي لتونس كما حصل بعد الثورة بفعل تضافر عوامل عديدة لم يكن لتونس في غالب الاوقات القدرة على التحكم فيها او الحد من انعكاساتها السلبية ، وخاصة منها صعود الاسلام السياسي الى السلطة و انفجار الأوضاع في ليبيا وسوريا وإسقاط النظام المصري و نظام العقيد القذافي ومحاولة اسقاط النظام السوري بفعل التدخل الغربي الأوروبي الأمريكي المستند الى دعم بعض الأطراف العربية . وقد تميّز الموقف التونسي من هذه الملفات بالإرتجاليّة وسوء التقدير للعواقب خاصة عندما حادت الدبلوماسيّة التونسيّة عن الحياد وسمحت بإدخال الأسلحة لدعم المعارضة اللّيبيّة دون التحسّب الى إرتدادات هذا المواقف السلبيّة التي نعيشها اليوم ومنها فقدان تونس لقدرتها على الوساطة بين الفرقاء اللّيبيين وتحوّل ليبيا الى القاعدة الخلفيّة للإرهاب وللسلاح الموجه ضد تونس ، فضلا عن فقدان تونس لأول شريك اقتصادي وتجاري لها في المنطقة العربية .
والغريب في الأمر أن الدول الغربيّة والعربيّة المسؤولة عن إسقاط النظام اللّيبي لم تشرك تونس في الاجتماعين الملتئمين بباريس في سبتمبر 2011 وجوان 2013 لاقتسام المغانم و لترتيب أوضاع ما بعد الحرب بليبيا وخاصة منها الأوضاع الأمنية المنهارة في إشارة واضحة لمدى استخفافها بمصالحنا وحاجياتنا الأمنيّة .
لكنه يبدو أن الدبلوماسيّة التونسيّة تحاول ان تتدارك هذا الوضع بعد تشكيل الحكومة الجديدة ، وقد بادرت مؤخرا باقتراح تحرك على المجموعة الدوليّة بهدف التوصل الى تحقيق المصالحة بين الفرقاء اللّيبيين و احياء التعاون الدولي في معالجة الاوضاع الامنية بليبيا .
وعلى صعيد متصل تحوّلت ليبيا الى الممر الرئيسي لتدريب الشباب التونسي وترحيله للقتال في سوريا بتواطى وتمويل خارجي لشبكات تعمل داخل تونس في كنف التنسيق مع أطراف ودول عربيّة وغربيّة ، واللاّفت للانتباه أن السلطات الحاكمة بتونس ظلّت لفترة طويلة غير مكترثة لهذا الخطر ولم تتحرك أمنيّا إلاّ بشكل جد متأخر في محاولة للتوقي من موجة المقاتلين التونسيين العائدين من سوريا .
وفي الحقل الدبلوماسي ، كان لقرار قطع العلاقات مع النظام السوري ، انعكاسات سلبيّة كبيرة على الجالية التونسيّة التي فقدت الرعاية والإحاطة فضلا عن فقدان تونس للقدرة على التواصل والتنسيق الأمني مع السلطات السورية لمعالجة ملف المقاتلين التونسيين الذين ما يزال بعضهم يتدفّق على ميادين القتال عبر تركيا .
لكن تونس لم تتحرك دبلوماسيّا باتجاه تركيا والحال أنّها البوّابة الرئيسيّة التي يمكن من خلالها ايقاف هذا النزيف ، لو توفرت الإرادة من الجانبين ، كما يفترض أن تتحرك تونس باتجاه الأطراف الخليجيّة المموّلة للجمعيات التونسيّة المسؤولة عن تجنيد وتسفير التونسيين الى سوريا .
وهكذا ، يتّضح أنّ الخطوات المنجزة أمنيّا في الداخل لمقاومة الإرهاب ، ستظلّ محدودة الفاعليّة طالما لم يقع إرفاقها بعمل دبلوماسي ناجع وحازم عند الاقتضاء ، باتجاه الدول والأطراف المذكورة المسؤولة عن تمويل و دعم الحركات الإرهابيّة بتونس .كما يستحسن ان تسعى تونس الى اعادة التمثيل الدبلوماسي و لو على مستوى منخفض مع سوريا خدمة لمصالحنا الامنية و مصالح الجالية التونسية المتضررة من قطع العلاقات.

العلاقات الأمنيّة مع الولايات المتّحدة الأمريكيّة والدول الغربيّة :
طغى الهاجس الأمني على العلاقات بين تونس والولايات المتّحدة الأمريكيّة وحلفائها الغربيين بعد الثورة وذلك في تفاعل مع التطورات على الصعيد الداخلي التونسي وعلى الصعيدين الإقليمي والثنائي ، خاصة في ضوء انهيار الأوضاع الأمنيّة في ليبيا أثناء الحرب الأهليّة ، وتحوّل الأراضي اللّيبيّة بعد سقوط النظام الى معقل للحركات الجهاديّة والإرهابيّة المتطرّفة و منها القاعدة و ايضا انصار الشريعة التي صنفتها الإدارة الأمريكيّة كحركات إرهابيّة في أعقاب الهجوم على القنصليّة الأمريكيّة ببنغازي حيث تمّ اغتيال السفير الأمريكي .
كما شمل هذا التصنيف حركة أنصار الشريعة بتونس بعد اقتحام المتظاهرين للسفارة الأمريكية في سبتمبر 2012 واستهدافهم للمصالح الأمريكيّة بتونس مما أدى الى تأزم للعلاقات خاصة بعد الأحكام الموصوفة بالمخففة الصادرة بحق المتهمين في حادثة السفارة . لكن التعاون الأمني والعسكري بين تونس والولايات المتحدة يكتسي في مجمله طابعا استراتيجيا و سريّا وهو يرتبط بآليات ثنائيّة وإقليمية ومنها خاصة الأفريكوم وهي قوة خاصّة أمريكيّة استحدثت لحماية المصالح الأمريكيّة في افريقيا . كما يرتبط هذا التعاون باستحداث المنطقة العسكريّة العازلة بالجنوب التونسي وصيغ أخرى غير معلنة .
وبعد تولي الحكومة التونسيّة الجديدة المنبثقة عن الحوار الوطني للسلطة شهدت العلاقات بين تونس والولايات المتحدة والمعسكر الغربي عموما ، حركيّة جديدة في المجال الأمني شملت اجراء أوّل حوار استراتيجي تونسي أمريكي أثناء زيارة رئيس الحكومة الى واشنطن وكذلك تنشيط اللجنة المشتركة الأمنيّة والعسكريّة التونسيّة الأمريكيّة .
في سياق متّصل وقعت الحكومة خلال شهر مارس 2014 على اتفاقية وشراكة أمنيّة مع الاتحاد الأوروبي (Partenariat pour la mobilité) لضبط حركة الهجرة غير المنظمة التي يعتبرها الغرب مصدر تهديد رئيسي لأمنه ويسعى الى ضبطها ومنعها من خلال التعاون مع تونس ودول الضفة الجنوبيّة للمتوسط ، مع الاشارة الى أن الملف الأمني أدرج كركيزة أساسيّة لعلاقات الشراكة التونسيّة الأوروبيّة التي تمّ أخيرا تدعيمها بالتوقيع على برنامج العمل التونسي الأوروبي للفترة 2013-2017 وهو ينص على توسيع منطقة التجارة الحرة لكافة القطاعات الاقتصاديّة والخدميّة وإحكام التعاون الأمني وخاصة التحكم في حركة الهجرة السريّة ومقاومة الإرهاب والجرائم الاقتصاديّة والجريمة المنظمة .

التعاون الأمني مع الدول العربيّة :
تطوّر التعاون الأمني بين تونس والجزائر بشكل كبير لمواجهة الحركات الإرهابيّة العاملة في المناطق الحدوديّة وكذلك لمواجهة الأوضاع الأمنيّة المتدهورة بليبيا وانعكاساتها السلبيّة على أمن واستقرار دول المنطقة.
لكن هذا التعاون يظل محدود الفاعليّة بحكم عدم القدرة على تعزيزه بالتنسيق مع السلطات اللّيبيّة باعتبار عدم قدرتها على بسط سلطتها على أراضيها وتحوّلها الى قاعدة خلفية للحركات الإرهابيّة العاملة بتونس والجزائر والناشطة أيضا بمنطقة الساحل والصحراء .
ومهما بلغت درجة التعاون والتنسيق الأمني مع السلطات الرسميّة في الدول العربيّة أو الحلفاء الغربيين ، فإنه من الصعب السيطرة على كافة مصادر التهديد للأمن الوطني وكذلك القوى والأطراف الرسميّة وغير الرسميّة التي تستهدف الحفاظ على مصالحها الاقتصاديّة والسياسيّة المكتسبة بتونس على حساب امننا و مصالحنا الوطنية وذلك باللّجوء إلى التدخل في الشؤون الداخليّة واختراق النسيج الجمعياتي والمجتمع المدني وأيضا عبر اتفاقيات الشراكة والتعاون والقروض الماليّة غير المتكافئة المفروضة على تونس . وسنخصص المقال القادم لتناول هذه الجوانب بالتفصيل .

(*) سفير ودبلوماسي ناشط في المجتمع المدني






Comments


0 de 0 commentaires pour l'article 86459


babnet
All Radio in One    
*.*.*
Arabic Female