دع عنك الغنوشي والسبسي فالشعب ومثقفوه ممنوعون من الطمسِ

محمد الحمّار
دع عنك الغنوشي والسبسي فالشعب ومثقفوه ممنوعون من الطمسِ
دع عنك الغنوشي والسبسي فالشعب ومثقفوه ممنوعون من الطمسِ
مسكين المواطن المنتمي إلى بلد مخبري للديمقراطية مثل تونس. ومسكين جانب كبير من الشعب الذي يبقى على جهله ببعض البديهيات التي تتحكم بالعلاقة بين المواطنة والسياسة. وتبا للسياسة لمّا

في السياق نفسه أضحى من العادي جدا في بلدنا اليوم، وأيضا في أي بلد مكتمل الديمقراطية، حصول انقلاب في المواقف السياسية بنسبة 180 درجة. لكن في المقابل من المؤسف أن لا يكون الجمهور العريض دوما متوقعا لمثل هذه الانقلابات. فنعتُ راشد الغنوشي لحزب نداء تونس بالحزب المعتدل (سهرة يوم 25 أوت 2013 على قناة نسمة) بعد أن كان يصفه بكل النعوت القبيحة أمر لا يستحق أن نذهل منه أكثر من بضعة دقائق. كما أنّ تحالف الجبهة الشعبية مع حزب نداء تونس ضمن جبهة الإنقاذ الوطني لا يمكن أن يصدم المتبع للسياسة سوى لبعض يومٍ فقط.
أما أن تطال عدوى الانقلاب الإنسانَ بعينه وأن يمجّد أتباع حزب حركة النهضة من جهة وأتباع حزب نداء تونس من جهة ثانية بعضهم بعضا بعد أن كان الفريقان يشيطنان كلاهما الآخر فهذه من باب المضحكات المبكيات. وهي مهانة للشعب التونسي جملة وتفصيلا ونذرا بابتعاد موعد الانتقال السياسي الأفضل. وهي هزيمة أخلاقية ليس أقذر منها هزيمة إذ أنّ المنتفع منها ستكون الأطراف الخارجية كما سنرى. والمشكلة ليست في الوفاق، فمن منا لا يرغب في التآخي والتوافق، لكن المشكلة في غياب كل الضمانات حول استدامة الوفاق وحول تجنب انقلاب معاكس في المستقبل القريب أو البعيد.
بينما المواطن الحر هو قبل شيء إنسان حر. والحر هو من يُبقي على مواقفه المبدئية في مجال الثابت مع اللجوء إلى تغيير المواقف التابعة لمجال المتحول فحسب. وإلا فلماذا يقال إن السياسة هي فن الممكن ولا يقال إنّ الموقف الإنساني هو فن الممكن؟ ذلك أنّ العلاقات الإنسانية فنّ بجدّ، لكنها فن المثابرة والتضحية ونكران الذات، لا فن التلاعب بالمشاعر الذاتية وبمشاعر الغير. و كما جاء في المثل القديم، تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها.
ولكي لا تتلاعب الأحزاب السياسية بعواطف أتباعها ولا بمشاعر الناس المعنيين بالتغيير المجتمعي، ينبغي أن يحاذر أتباع الأحزاب من مغبة أن تأخذهم هذه الأخيرة على حين غِرة. ولنضرب على ذلك مثالا استقيناه أيضا من نفس المرجعية المتخلفة للتعامل مع الشأن السياسي ألا وهي الاتفاق الذي حصل، في نفس اليوم الذي أدلي فيه الغنوشي بتصريحه تلفزي، بين حزب التحالف الديمقراطي (زعماء ما اصطلح على تسميته بالخط الثالث) وحزب النهضة، والذي مفاده الموافقة على تكوين حكومة انتخابات محايدة.
في هذا السياق، هل من المتوقع أن تهضم الشرائح العديدة من الشعب التي يئست من نوايا وممارسات الحزب الديني الحاكم مثل هذا الاتفاق البرقي وأن تتبدل من جماهير مناوئة للأسلمة إلى جماهير متوافقة معها بن عشية وضحاها، وذلك من دون أي تبرير فلسفي قبليّ للاتفاق بين الحزبين؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى ألا يخجل قادة حزب التحالف الديمقراطي من الخلط بين التكتيك السياسي (تحالف بين حزبين تتقاطع أفكارهما بخصوص التوجه الهوياتي) والممارسة الفعلية للفكرة الثالثة ( لا إسلامية ولا حداثوية) التي لطالما حاول المجتمع العربي الإسلامي وما زال يحاول ، عبر حقب تاريخية مختلفة، صياغتها ثم تحقيقها؟ ألم يعِ هذا الحزب أنّ فكرة الخط الثالث لا تصح إلا إذا تشكلت خارج بوتقة الحزب الديني بينما هو يرغب في التحالف مع هيكل حزبي لا غير؟ متى سيدرك أنّ تشكل سياسة من الصنف الثالث تتم بانصراف أتباع الحزب الديني، عن حزبه، عن قناعة، ثم بانخراطهم في حزب الخط الثالث، مهما كان اسمه، وأنّ هذا لم يحصل أبدا؟
إنّ ما نستنتجه من الانقلابَين الاثنين ليس الانقلاب بحد ذاته هو أنّ الأحزاب في تونس تمارس السياسة ولا تأبه لحاجة المجتمع بأن تنفذ الأحزاب السياسة التي يريدها الشعب بقيادة نخبه المثقفة. وفي الأثناء هي تعلم أن ليس للشعب إرادة سياسية ولا منهجية علمية للتعبير عنها لذا تراها تمنع أي تواصل بينها (الأحزاب) والمثقفين العضويين وبين الشعب وهؤلاء. وهذه مأساة بعينها.
إنّ التحالف بين النهضة والنداء إن يحصل فهو إيذان بتحوّل النهضة نحو المدنية، لكن الخطر مازال قائما لا لشيء سوى لأنّ أتباع النهضة لم يتحولوا هم بالذات إلى مواطنين أي إلى أناس مدنيين. كما أنّ الاتفاق بين النهضة والتحالف الديمقراطي إن يتأكد على الأرض فهو يؤشر على قابلية أن يتحول الإسلام السياسي إلى منهج ثالث، لكن في المقابل تبقى دار لقمان على حالها طالما أنّ جمهور النهضويين لم يستسيغوا هذه الفكرة إن لم نقل هي لم تنبثق عنهم.
في كل الحالات يبدو لنا أنّ الانقلاب حاصلٌ ليس في المواقف فقط (وهذا قد يكون مفاجئا لكنه مقبول ومنطقي) وإنما أيضا في الأدوار. فمادامت الأحزاب في تونس هي التي تشرّع للمستقبل من دون أية مرجعية فكرية نابعة من الشعب، فلن ينطلي علينا القول إنّ هنالك توافق بصدد التشكل بين الأطياف السياسية. فالأصح أن نعتبر الأحزاب كيانات تخضع لإملاءات من الداخل ومن الخارج وأنّ آخر من تكترثُ به مصادر هذه الإملاءات هو الشعب التونسي.
إذن فليكن الانقلاب المنهجي للشعب أقوى من الانقلابات كلها. فلتبق النهضة نهضة والغنوشي هو بذاته، وليبق النداء نداء وقائد السبسي هو بذاته، لكن فلتلتزم الأحزاب كلها وزعماؤهم كلهم بضمان جملة من المقررات الشعبية في ما يلي أهمها: إن فلسطين هي القضية المركزية للشعب التونسي، وإنّ أية سياسة اقتصادية لا تقطع مع الرأسمالية المتوحشة وتتحرر من الصناديق الدولية إنما هي سياسة إفلاس وتداين ودمار، وإنّ تونس لها من الموارد الطبيعية ما يكفيها هي ويزيد، فضلا عن الموارد البشرية والذكائية الهائلة، وإنّ بلدنا لا يمكن أن ينجز أيّ تحول سياسي ناجح بمعزل عن الجارتين ليبيا والجزائر في أسوأ الحالات، وإنّ الكثير من أحرار تونس الذين يؤمنون بأنها بلد الثورة المسترسلة يعتبرون أنفسهم مستخلَفين في واجب بث روح التغيير في كل العالم.
Comments
5 de 5 commentaires pour l'article 70459