الفئة الصامتة والتحليل الخاطئ

منجي المازني
بينما كنت بصدد المشاركة بباردو في اعتصام دعم الشرعية المقابل لاعتصام الرحيل إذ خاطبني شاب كان يجلس في مقهى محاذ لاعتصام الشرعية قائلا : لقد أكثرتم من الاعتصامات ومن والاحتجاجات وأدخلتم البلاد في نفق مظلم. فبالله عليكم عفّوا عنّا
واتركونا نعيش بسلام فاجبته :لماذا لا تسأل الطرف المقابل الذي لم يقبل أن تواصل المؤسسات المنتخبة العمل في كنف السلم الإجتماعيّة وأصر على التصعيد. عندئذ تشنّج وقال لي : جميعكم مخطئون وجميعكم تحبّون الدنيا وتلهثون وراء المناصب والكراسي والمصالح وجميعكم تمثلّون على الشعب. وفي سبيل تحقيق رغباتكم ومآربكم جيش كل طرف منكما جماعته لأجل التأثير على الناس ولأجل فرض وجهة نظره. فدعونا أيها السياسيون واتركونا نعيش في راحة بال.
بينما كنت بصدد المشاركة بباردو في اعتصام دعم الشرعية المقابل لاعتصام الرحيل إذ خاطبني شاب كان يجلس في مقهى محاذ لاعتصام الشرعية قائلا : لقد أكثرتم من الاعتصامات ومن والاحتجاجات وأدخلتم البلاد في نفق مظلم. فبالله عليكم عفّوا عنّا

هذا الكلام ذاته قد كنّا سمعناه من طرف أحد مواطنينا بالخارج عندما صرح عبر إحدى الفضائيات قائلا : نزلت ببلدي قصد قضاء إجازتي بين أهلي وعشيرتي وأخذ نصيب من الراحة والاستمتاع بالبحر وحرارة الشمس والدفء العائلي. فما وجدت غير الإضرابات والاعتصامات والخصومات والمواجهات والانفجارات والتجييش والتجييش المضاد بما أصابني بالذعر والخوف الشديد طيلة فترة إجازتي الصيفية. الكلام ذاته والمنطق ذاته والحجج ذاتها يستحضرها ويسوقها عامة الناس (لعلّهم يمثلون الأغلبية). فما مدى حقيقة تخوفات هذه الفئة وما حقيقة مآخذها على السياسيين ؟
هذا السلوك / الموقف أو هذا النوع من التفكير والتعامل مع الحدث هو في ظاهره رفع لراية المسؤولية والحرية ورفض جملي للاستبداد ورفض لسياسة التصدر للتحدث والنضال باسم الشعب دون تحمل الحد الأدنى من التبعات الأخلاقية والإنسانية ولكن في باطنه ينم عن قصر نظر هذه الفئة وعجزها عن تحمل المسؤولية الوطنية والتاريخية.
ولتفكيك هذا الموقف لا بد من الإشارة إلى العناصر التالية :
1) الأنانية :
تتهم هذه الفئة كل السياسيين،غثهم وسمينهم، باستغلال السياسة لتحقيق مصالحهم ومآربهم الشخصية وتطالبهم (حكومة ومعارضة) بأن لا يمضوا في سياسة التجييش والتجييش المضاد حتّى يتسنّى لها العيش في أمن وأمان وراحة بال يتيح لها الحصول على نصيبها من بالراحة والاستجمام في ربوع تونسنا الحبيبة وشواطئها الجميلة. ويستشفّ من هذا الموقف أن هذه الفئة لا تفكر إلا في نفسها وفي راحتها و أنّها لم تحتج على التجييش والتجييش المقابل إلا عندما هدّد هذا الوضع مصالحها وعطل بعضها و ترتّب عنه أن منعها من العيش في راحة بال بما يتيح لها قضاء عطلة صيفية مريحة. لم يبلغ إلى علمنا أنّ هذه الفئة كانت قد احتجّت أيام حكم المخلوع بن علي. ولم نسمع لها صوتا أيام كان المناضلون من كل الطيف السياسي( بنسب متفاوتة ) يقضون أحكاما بالسجن بعشرات السنين في ظروف قاسية جدّا وغير انسانية. بل واصلت هذه الفئة صمتها واستمتاعها بالراحة والسباحة في البحر لعشرات السنين تحت عباءة الجلادين ومظلّة المجرمين.
2) الجبن :
إنّ هذا السلوك لهو مظهر من مظاهر الجبن. ذلك أن بعض الناس أو كثيرهم لا يستطيعون أن يصدعوا بآرائهم الحقيقية التي تشير إلى الداء مباشرة ولا يستطيعون أن يشيروا مباشرة وبدون مواربة إلى الفريق الظالم. ويكون ذلك من باب الخوف على مصالحهم. فمثلا بعض الفنانين عندما يسألونهم عن فرقهم الكروية المفضّلة يجيبون بأن فريقهم المفضل الوحيد هو الفريق القومي. وهو جواب ديبلوماسي يقصد من ورائه عدم خسارة البعض من جماهيرهم حسب اعتقادهم. كما أنّ الكثير من مثقفينا ومحللينا السياسيين ولمجرد مصلحة بسيطة لا يريدون أن يشيروا إلى الحقيقة مباشرة وبدون مواربة إلى الفريق الظالم. وإنما يحتجون على كل الناس دون تمييز لأحد على الآخر ويضعون كل الفرقاء في نفس السلة حتى يبرهنوا للعالم أنهم احتجوا وسجلوا موقفا سياسيا(ولكن بدون تبعات). فجبن أن يعطل الإنسان أغلى شيء وهبه الله إياه وأودعه فيه ،وهو العقل الحر القادر على الاختيار، في سبيل لعاعة من الدنيا. وكما قال الشاعر نزار قباني :
إختاري الحب.. أو اللاحب فجبنٌ ألا تختاري
3) التنصل من المسؤولية :
هذا السلوك هو أيضا تنصل من المسؤولية العظمى الملقاة على كل واحد منا. قال الله تعالى : إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا – الأحزاب الآية 72. يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه - الانشقاق – الآية 6 . فهذه المسؤولية تقتضي من كل واحد منا أن يصدع بالحقيقة في سبيل إعلاء كلمة الحق وحمل الأمانة بكل أمانة. فبعض الناس لا يريد أن يتحمل المسؤولية الملقاة على عاتقه بتعلّة أن السياسة هي أصل الداء ومنبع الشرور وأن السياسيين هم شر الناس يمارسون السياسة لأجل التمعش منها وقضاء مآربهم ومصالحهم الشخصية. ولذلك فهذا الصنف من الناس يريد إقناعنا أنه إنما يعتزل السياسة لتجنب الفتنة أوّلا ولتجنب الوقوع في حبائل هؤلاء السياسيين المخادعين ثانيا. في حين أنه عندما يعتزل العمل السياسي يترك الفرصة للبعض من السياسيين الفاسدين للتأثير على المشهد السياسي والسطو على إرادة الشعب، لا بل ومصادرتها والانفلات من المراقبة الشعبية الواسعة وتوجيه الشعب إلى حيث يريدون وحيث يشاؤون. فالانخراط في العمل السياسي وفي إدارة شؤون الناس هو في الأصل ليس عملا انتهازيا أو عملا مذموما وإنما هو ضرورة من ضرورات الحياة. وهو واجب شرعي يأجر الإنسان عليه إذا قام به على أحسن وجه ويأثم إن اعتزله وفسح المجال للفاسدين لإدارة شؤون الناس .لأن الملائكة في هذه الحالة سوف لن تتنزل علينا من السماء لتتكفل بإدارة شؤوننا السياسية إن نحن اعتزلنا السياسة. قال الله تعالى : إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ .
4) الظلم في الحكم على الناس والتصدر لإصدار الفتوى :
بعد كل هذا يستغل الكثير من الناس أعمال وجرائم القتل والإرهاب الجارية ليلصقها بكل السياسيين بدون تمييز وليجعل منها سببا كافيا ومقنعا لاعتزاله السياسة والسياسيين اعتبارا إلى أنّه يخاف الله ولا يرغب في التورط في هكذا أفعال ولو بمجرّد الانتماء. فلماذا يتصدر عامة الناس للفتوى في حين أنهم أبعد ما يكونون عنها. لماذا عندما يتعلق الأمر بمرض معين يقضي المرء الأيام والأسابيع و ربّما السنوات الطويلة وهو يتنقل بين الاطبّاء بحثا عن دواء شاف. ولكن عندما يتعلق الأمر بالمسائل الدينية وبالأصول الفقهية يمدك بسرعة البرق من عند نفسه بفتوى جاهزة ولا يتريث ولا يقضي الوقت الكافي بحثا عن الحلول الفقهية عند العلماء أهل الاختصاص. قال الله تعالى : وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ . الحجرات الآية 9. فالاعتزال في هذه الحال مرفوض بنص القرآن والانحياز إلى الحق وإلى الفئة الصالحة ومجاهدة ومقاتلة الفئة الباغية هو واجب شرعي. ومن الناس من يبحث عن أخطاء للفريقين ويريد أن يثبت بالدليل القاطع أن كل الفرقاء السياسيين مخطئون لكي يبرر صمته وحياده تجاه كل الفرقاء السياسيين. فأولا هناك فرق كبير بين الأخطاء اليومية عند ممارسة العمل السياسي اليومي وبين التوجهات العامة. وثانيا وحتى لو كانوا كلهم مخطئين فلا بد أن ننحاز إلى فريق،أقل أخطاء، حتى نمنع وقوع الفتنة ونتجنب الصمت القاتل.
وفي الأخير قد لا نلوم الشيطان على وسوسته لأنه خلق للوسوسة ولكن نلوم أنفسنا على طاعته والانقياد له. فبعض الناس يتفوّقون على شياطين الجن في المكر والخداع. وخطؤنا أننا تركناهم يصولون ويجولون ويمكرون آناء الليل وأطراف النهار. وكما قيل عن فرعون : يا فرعون آش إللي فرعنك : قال هم الذين فرعنوني . فلو خرجت هذه الفئة الصامتة عن صمتها وانحازت إلى الحق لما تجرأ على الشعب قلة قليلة من الناس وساموه سوء العذاب وفرضوا عليه الذل والهوان لعشرات السنين ولما فرضوا عليه دينا غير دينه.
Comments
9 de 9 commentaires pour l'article 69913