ماذا حدث بالتحديد..

نصرالدين السويلمي
الديمقراطية هي مشاركة المجتمع في ادارة شؤونه بأشكال مباشرة او عبر وسطاء يرتضيهم، وتعتبر الأحزاب أرقى ما وصل اليه التنظّم الديمقراطية، لذلك هي عمود العملية في انتظار تحيينات أخرى مستقبلية على امل الوصول الى نماذج أكثر فاعلية وربما ارتكست بفعل المال ومصالح الكبار وشرِكات وشرَاكات الاستعباد المهينة للإنسان.
الديمقراطية هي مشاركة المجتمع في ادارة شؤونه بأشكال مباشرة او عبر وسطاء يرتضيهم، وتعتبر الأحزاب أرقى ما وصل اليه التنظّم الديمقراطية، لذلك هي عمود العملية في انتظار تحيينات أخرى مستقبلية على امل الوصول الى نماذج أكثر فاعلية وربما ارتكست بفعل المال ومصالح الكبار وشرِكات وشرَاكات الاستعباد المهينة للإنسان.
من رحم النشاط الديمقراطي يحدث أن تعزف الشعوب عن احزابها وترحل للبحث عن وصفات اخرى، او تسعى الى استبدال الاحزاب التقليدية المجربة بأخرى غير مجربة، عادة ما يحدث ذلك عند الازمات اذا تعلق الامر بالديمقراطيات العريقة، وعند التأسيس ومراحل الانتقال الاولى اذا تعلق الامر بالديمقراطيات الناشئة، ففي الديمقراطيات العريقة تشهد أوروبا اليوم نوعا من الشد نحو الوعود المتصلة بالمصالح المادية والثقافية المتخففة أو المنفصلة عن حقوق الاقليات ومصالح الشعوب الاخرى و المنظومة الكونية والمشترك الإنساني، وأسباب ذلك طويلة متشعبة، منها الصراع المخيف بين عمالقة المال على حساب الإنسان، ومنها القلق نتيجة للشمولية الصينية "المربحة" ونصف الشمولية الروسية التي تتقدم في كل الاتجاهات وهزيمة السياسي لصالح المالي داخل الديمقراطي وخاصة الجمهوري الأمريكي.
ذلك عن الديمقراطية العريقة، أما الناشئة منها فتونس هي النموذج الأقرب للديمقراطية في مراحلها التأسيسية، حيث غول المطلبية وسلاح الانتظار. فبعد ان هب الشعب الى الساحات لإنجاز ثورته هب الى الصناديق لاستعادة ثروته، نجح في الثورة وقدم مفاتيح الخزنة للنهضة والترويكا وانتظر النقلة النوعية واستعد لاستقبال الثروة التي قال النضال ان الانظمة القمعية المتعاقبة احتكرتها وقسمتها فيما بينها.. لم تأت الثروة فشرع الشعب في التململ، مع معاول الثورة المضادة وحملات التسفيه والتشويه، تجمعت قوى انتقامية واخرى استئصالية ودفعت بالنداء لعقاب الترويكا التي لم تفرج عن الثروة، تلك نسبة 55% بينما ظلت نسبة 45% منحازة إلى الثورة.
لم تأت الثروة مع النداء فانخرم أنصار الانتقام والاستئصال، ثم طال العهد بخزان الثورة فانصرف للبحث عن تجليات أخرى. وتشكلت كتلة كبيرة طوافة لا جنس لها، منقسمة بين قوى عقابية وقوى استكشافية، تبحث عن البديل المفقود او المنشود، يمكن القول أن قطاعات واسعة من الشعب التونسي وسعت مساحة الاستكشاف بأشكال كبيرة، ربما رفعت كل الحواجز والخطوط الحمراء وبحثت حتى في المساحات المحضورة! كان الشعار الغالب هو البحث عن الثروة المنشودة في المرتفعات والمنخفضات والوديان والسواقي وأوكار الطيور وغيران الثعالب والأفاعي، كان شعار الكتل المحبطة، افتش انقب امارس حظي اجرب حتى بإتلاف الاحزاب وبركوب المخاطر اجرب حتى بالقروي وان لزم بعبير وان استوجب بالقصاص واذا تحتم حتى بعلي شورب..
لم يكن تصويت منتصف سبتمبر بالتصويت الغبي بل كان في ملامحه الكبرى التصويت المغامر الذي يغامر من اجل فرصة للربح والا فانه يعتقد ان ما يعيشه قاع الخسارة وتخ زيرها، لذلك لا ينفع مع هذا الكاميكاز الانتخابي دعوات التعقل لثنيه عن هذا المرشح او ذاك.. ربما الكثير من الذين هالتهم النتيجة لا يدركون أن الذئاب الانتخابية المنفردة لا تستهويها حسابات النخب والأحزاب بقدر ما تستهويها لذة التجربة، فان وجدت رئيس البحبوحة فقد حسن طلبها، وان خاب مسعاها فيكفيها شرف الانتقام من عدوها الذي رفض الإفراج عن الثروة.
تُنّقل الجموع الحائرة افئدتها تباعا، وحق لها ان تبحث عن مرادها كما تشاء، حق لها أن تروي ظماها بعد عقود من العطش، اذا لم ترتوي من الثروة فالترتوي من حرية الاختيار ..الاختيار الواعي الزاطل المحربش المحشش العلمي العبثي.. لا يهم، "انا اختار اذا فانا موجود"، ليس المشكل في الجموع الحائرة الباحثة عن خارطة الكنز، بل في ادعياء الوعي السياسي الذين يسفهون كل السابق ويبشرون بكل اللاحق، لا يمارسون النقد البناء للتجربة التي تماسكت بمعجزة في بحر إقليمي دمر نفسه ويسعى الى تدميرها على مدار الساعة، بل يسفهون رحلة الثماني سنوات، ويتحدثون عن النار التي انقشعت والجنة التي حلت! تلك أقراص مخدرة سيدوم مفعولها لسنة تقل أو تزيد، ثم تشرع الحيرة في تجديد نسلها، لان الثروة لن تطل برأسها! ببساطة لان الثروة غير موجودة في مخازن الدولة وإنما في ثنائية القانون العادل والشعب العامل، الثروة تكمن في عملية إصلاح شاملة من الأسفل الى الأعلى، في تنقية الحياة السياسية من الصراعات العقيمة، تكمن في جبهة اجتماعية حشادية الهوى وليست جرادية الغريزة، تكمن في تجفيف منابع التنبير المزري ورغاء أباطرة الإحباط ، تكمن في تهديم كل هذه المصانع المفلسة التي اختصت في تصنيع الشماعات.
نتفهم أن ينتعش الكثير باختيار قيس سعيد، وبسقوط المنظومة خاصة التجمعية الفاقعة، لكن لا نفهم هوس البعض باغتيال فضيلة المراكمة، والاجهاز على طبيعة وفطرة الحياة السياسية التي تتنفس برئة الأحزاب، هذا التسفيه المجنون يشبه المدمن الذي يقتل ويحرق كل ما حوله ليتمتع بجرعة ستسكن حاجته لوقت قصير ثم يعود الى دوامته، كذلك فرح بعضهم بتفكك حزب المؤتمر والتكتل وتراجع النهضة ثم فرحوا بتفكك الجبهة الشعبية ثم تغامزوا على نتيجة المرزوقي في الرئاسيات ووصفوا عبو بالفاشل، عملية التهام مجنونة للأرصدة، سكر واضح جرعته لحظة انتخابية زائلة، يدرك الكثير انها ليست الحل السحري وانها عابرة في المشهد، كما عبر الهاشمي الحامدي والرياحي والشاهد وعشرات الأحزاب التي افلت والاحزاب التي في طريقها الى الأفول.
نحن بصدد مرحلة استثنائية، يتنقل فيها المجتمع بنسق رهيب، يبحث عن عمر او صلاح الدين او ابن الوليد، وان تعذر فلا بأس من البحث عن عمر بن هشام ليذبح الفقر وعن قارون ليطلق خزائنه على الفقراء، في هذه الوقت العصيب، على الاحزاب الجادة ان تحافظ على تماسكها وتصبر على لحظة القلق الانتخابي، تحسن، تحصن، ترمم نفسها وتستعد الى زمن الصفاء، حين يسكت الغضب عن المجتمع ويقتنع ان التنمية سلوكات وليست قرارات، وان مفاتيح السعادة ليس حبيسة دهاليز تحتاج الى رجل قوي امين يفتحها او يخلعها، بل السعادة منطلقة في الحقول ، تحتاج البذرة والماء والكثير الكثير من الجهد المضنى.
وحدهم المراهقون تلفحهم لحظة نتائج انتخابات عابرة، فيتخمرون بها ثم يفزعون الى ثلب تاريخهم وجلد أنفسهم، وتتكاثر الخمرة في عقولهم فيطلقون النار على من حولهم، ثم يطلّقون حاضرهم وينطلقون خلف السراب، وحدهم الرعاع من اذا لمحوا الثريد لمع بريق الخيانة في عيونهم، ثم وحدهم من تحصنوا بالعقل وأحسنوا قراءة اللحظة، وحدهم من يحافظون على الأحزاب الجادة ويسعون إلى تأثيث أحزاب جادة.. تحتاج تونس الى أحزاب قوية لإدارة حياة سياسية سليمة مكتملة الشروط، حياة سياسية سيحتاجها العقل الناخب حين يستريح من مشقة البحث الواهم عن شمشون الجبار الذي سيطلق سراح الثروة من دهاليز الدولة.
Comments
3 de 3 commentaires pour l'article 189221