كيف نضمن الحريّة للإعلام

<img src=http://www.babnet.net/images/5/karikater2002.jpg width=100 align=left border=0>


عزالدين بوعصيدة (*)

مثل الحرية كمثل الكيمياء، تصنع بها الأدوية والسموم، تطوّر بها المعادن وشتّى المواد لتجعل عيشك رخاء أو ضنكا وفق المقاربة التي تختارها لنفسك. كسبنا الحرية مع اندلاع الثورة، كيمياء التقدم والخروج من التخلف إذا اهتدينا إلى المقاربة الضامنة لذلك، وإذا ما أخطأنا المقاربة الصالحة أو استسهلنا في احترامها فلا نلومن إلا أنفسنا.





أطلقت الثورة ألسنتنا و أقلامنا فخُضنا في أبواب كثيرة، كلّ حسب ما يراه صحيحا، يثير سخط البعض و استحسان البعض الآخر، و يبرّر ما يمدّه من مكتوب أو منطوق بما يرتضي لنفسه كمرجعية. ذلك أن العهد البائد، المنكر بطبعه للحرية لم يُورّثنا أيّة مقاربة للتعاطي مع هذه القيمة. مكثنا كذلك حتّى كًتب الدستور الرّائد، ذلك أنّه خطّ منهاجا للتعاطي مع عديد القيم الضرورية لاستقامة العيش الجماعي في كنف الحرّية و الاحترام. وبطبيعة كل عمل إنساني غابت بعض التفاصيل مما يثير بعض المشاكل أحيانا. لكن في المجمل، يحتوي الدستور على ما يكفي لاستبيان المقاربات المُوفّقة في شتّى المجالات.

من بين التوجّهات الفكريّة التي ورثناها من العهد البائد و الاستعمار ثلاث لم تفهم كُنه الدستور وهي : توجّه المنكرين لمفهوم المجتمع المدني المعتقدين تنافره التامّ مع المعتقد الديني السائد في البلاد، و للفئة الحاملة لهذه القناعة تمظهرات مختلفة سمتها التقوقع و ترتقي أحيانا إلى العنف، التوّجه الثاني يحمله عدد من المثقفين الذين لم يقدروا على استيعاب تناغم الحداثة مع الموروث الحضاري العربي الإسلامي، قد تدفعهم شهادة "ماكرون" الأخيرة إلى أكثر مرونة، ذلك أنّهم في غالبيّتهم مثقلين بالإرث الاستعماري الفرنسي وكلام سيد فرنسا يؤخذ لديهم مأخذ الجد.و أهم تمظهرات الفئة الحاملة لهذا التوجه هو التسابق مع الزمن في السعي لتخريب الهويّة المجتمعيّة الجامعة مقتنعة أن ما سوى ذلك سيعود بالوطن إلى الجاهليّة. و هذه الظاهرة، غير مؤثّرة بالعمق الذي يتمناه أصحابها. و التوجّه الثالث هو التعبير "الفكري" لزبانية العهد البائد، أولائك الذين لا يعرفون قيمة الحرية و يتموقعون في المجتمع بالإعتماد على الولاء و الإذلال و الابتزاز و ما دون ذلك ظانّين أن ذلك من الأساليب المشروعة كغيرها ذلك أن المعمول به هو "تدبير الراس" و"الفهلوة" و"القفة" ووو

الحمد لله أن الفئة الأولى غير موجودة فعليا في الإعلام بفعل فاعل أو باعتبار طبيعتها. الفئتين الأخيرتين حاضرتين بكثافة، قد يكون بفعل فاعل، وهنا يبدأ المشكل حيث يسمح هؤلاء لأنفسهم بالتنكّر بدرجات متفاوتة للمرجعيّة الدستوريّة التي من المفترض أن يتقيّدوا بها من تلقاء أنفسهم، ذلك أن هذه المرجعيّة مرجعيّتهم كسائر المواطنين واحترامها وإن لم تقنعهم هي المقياس الأساسي لحرفيتهم.
رغم كل هذا علينا أن نكون متفائلين للأسباب الآتية

بالنسبة لمنظّري الإجتثاث من الموروث الحضاري، باعهم قصير جدا لسبب بيداغوجي بسيط، ذالك أن ما يخوضون فيه لا يمكن ربطه بذهنية المتلقي رغم كل المسلسلات والمنولوجيستات الممهّدة. وسيأتي يوم، يوضع تدبير هؤلاء على محك الدستور و يُدفع معظمه إلى رفوف المكتبات ليبقى هنالك شاهدا، لا أكثر، على الدرجة الرفيعة التي ارتقى إليها منسوب الحرية في تونس الثورة. أمّا الفصيل الثالث فطريقه مسدود بطبعه، يأكل بعضهم بعضا والشبكة التي ضمنت عنفوانهم سابقا، ولو أنّها قائمة بعدُ، بدأت في التآكل لضآلة المكاسب من جهة و لانتشار المعلومة حول الفساد ومخرجاته في كل الشرائح المجتمعيّة.

السبب الثاني للتفاؤل هو أنّه في كل سيء توجد نسبة خفية من الصلاح تستيقظ حسب الظروف المحيطة. و الوضع في تونس اليوم يعيش حراكا ثريّا مليئا بالتحاليل و القراءات والتأويلات والمناقشات مما يفرض على العاقل عددا من التساؤلات قد تغيّر مسلّماته وتقرّبه إلى القواسم المشتركة.
وللاطمئنان، هناك دراسات علمية لتطور المجتمعات نحو الحداثة معتبرة للمعطيات الأنترب ولوجية و الاجتماعية و الديمغرافية و الاقتصادية تنسحب على تجارب كثيرة و إذا نظرنا إلى تونس من خلالها يصبح ما نعيشه من اهتزازات اليوم أمرا ضروريا سنرى بعده توازنا أكثر تندثر عبره النتوءات التي ترهق مضاجعنا ونعود فيه إلى درجة أعلى من الرخاء و منسوب ثابت من الحرّية.
ما نُبتلى به اليوم من تضييق على الإعلام هو من مسؤولية الكل، فعلى الإعلامي أن يرفع من مهنيته لينال احترام المتلقي ومساندته وتُصان حرّيته. لا قبل لنا اليوم بقراءة تدوينات من قبيل : " وعن أي صحافة تتكلم صحافة اﻹبتزاز والنفاق والتبندير والعمولة والفتنة والفساد " . أتمنى على الإعلامي أن يعمّق ثقافته إلى درجة تجعله مفكّرا قبل كل شيء.
المدعاة الأخيرة للتفاؤل هو يقيني أن الثلّاجات مليئة بالطاقات التي تتعذب لكن الزمن سينصفها.

أستاذ تعليم عال في الرياضيات
رئيس جامعة سابق


Comments


2 de 2 commentaires pour l'article 155324

MOUSALIM  (Tunisia)  |Samedi 3 Février 2018 à 07:57           
مقال جميل ينشر التفاؤل ويدفع للبحث عن القواسم المشتركة التي تحفز الجميع لتشييد المدينة ونبذ الإحتراب الذي يساهم في التدمير والتهديم -عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ،
فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا "

Mandhouj  (France)  |Vendredi 2 Février 2018 à 20:02 | Par           
الشعب الذي يضيع الحريۃ , يضيع كل شيء..


babnet
*.*.*
All Radio in One