ثورة من أجل الدولة لا ضدّها

أيمن عبيد
ألمانيا
ألمانيا
مثّلت ثورة الشباب التونسي الحالم، منذ إندلاعها أو بلوغها ذروتها في أواخر 2010، لغزا عصيّا على كلّ من حاول فكّ رموزها، فما إنفكّت تفاجئ كلّ من إنكبّ على دراستها من مفكّرين و باحثين و تخيّب تكهّنات كل من حاول إمتطاء صهوتها من سياسيّين و تراوغ كلّ القوى الإقليمية و الدّوليّة الراغبة في وأدها. فتضاربت في شأنها التحاليل بين المغامرة و المؤامرة، و ذهبوا في تسميتها المذاهب بين ثورة و إنتفاضة و إنقلاب أو رجّة إجتماعيّة.
فماهي حقيقة هذه الثورة و ما هي خصوصيّاتها؟ و ماذا يميّزها عن سابقاتها؟ و أين هو موقعها من الدولة ،بين الألفة و العداوة ؟؟
جاءت ثورة الياسمين في عصر خَالَ فيه العالم أنّ زمن الثورات ولّى و انتهى، لتأسّس لمفهوم جديد في عالمنا العربي و تتميّز عن كلّ من سبقها من الثورات و كأنّ هذا الشباب المتعلّم قد فهم جيّدا درس التاريخ و إستوعب معطيات الجغرافيا و موجباتها.
إذ كانت ثورات العربان في سالف العصر و الأوان إحدى ثلاث:
فإمّا إنقلاب عسكريّ أمني على شاكلة الضباّط الأحرار و حزب البعث و ثورة 1 سبتمبر في ليبيا أو إنقلاب صاحب التغيير، و هي حركة تنظيمات سريّة من صلب أجهزة الدولة تهدف إلى تدميرها، فإن نجحت تقوم بتصفية رجالات الدولة الأمّ و نفيهم و مصادرة أموالهم و التنكيل بهم.
و إمّا إنتفاضة مجوّعين من أولئك الذين أثقلت كاهلهم الضرائب و إجتمع عليهم شظف العيش و قسوة الطبيعة و ظلم الحكام و جشعهم، و تكون عموما اثر ارتفاع في الجباية كما حصل في ثورة علي بن غذاهم 1864 او في شطط في الأسعار نتيجة إنخفاض دعم الدولة كما كان في ثورة الخبز1984 ، و تبوء أغلبها بالفشل لهشاشة تنظيمها و عفويّة إندلاعها.
و بين هذا و ذاك، كانت تمرّدات التاريخ الغابر و الزّمن الإمبراطوري للأمة ،كالثورة العباسيّة و الفاطميّة و الموحّدية ، و آخرها أكذوبة الثورة العربية الكبرى للشريف حسين، و هي حركات عسكريّة إنفصالية تقوم ضدّ مركز الخلافة و ترتكز على معطى الاديولوجيا ( القوميّة أو المذهبيّة) و العصبية القبليّة. و هي أشدّها عنفا و شراسة، اذ تقطع دابر من سبقها من الدول و تمحي كلّ أثر لرموزها و مؤسساتها و تلاحق حتّى أمواتها ، فتنبش قبورهم أو تحولّها إلى مصبّات زبالة كما حدث مع ضريح أمير المسلمين يوسف إبن تاشفين.
فهل كانت شرارة الربيع العربي مستنسخة من سالفاتها في التاريخ؟ أم أنها أتت محمّلة بروح العصر لتأسس لحقبة جديدة؟
لقد كانت ثورة الياسمين، بإمتياز ثورة القرن الواحد و العشرين، فحضرت فيها معالم العصر و وسائله بقوة من حيث القلب و القالب:
فقد كانت ثورة الشباب في سنة الشباب، شبابٌ وصلت نسبة مستعملي الإنترانت فيه في ذلك الوقت الى أكثر من 25 بالمائة، فإتّخذ من مساحاتها الإفتراضيّة الحرّة منصّة له، و من صفحات تواصلها الإجتماعي و وسائل المولتيميديا البسيطة ( آلات التصوير و الهواتف الجوالة) إعلاما بديلا يغطّي تحرّكاته و يوصل مطالبه. هي تلك الثورة التي إختارت من المدوّنين المغمورين صوتا لها و من أغاني الرّاب و "الفيراج" هزيجًا و من "أولاد الحوم" ، حاملي الشّهائد و البانديّة محرّكًا.
كما أنّ شعاراتها كانت تعبّر عن روح العصر و تعكس طموح شباب جامح، سكنوا شرفة المتوسّط الجنوبيّة ،فإشرأبّت أعناقهم إلى شَماله و طاقت أرواحهم للإلتحاق بركب شعوبه المتقدّمة و لذلك تجاوزت مطالبهم المعهود و الضروري، من لقمة العيش إلى مفهوم المواطنة (شغل حرية كرامة وطنيّة) و تكريس مبدأ العقد الإجتماعي بين الدولة و مواطنيها (التشغيل بإستحقاق).
و الأصل في الأمر أنّ هذه المفاهيم الجديدة أتت من أجل تعويض أخرى قديمة بالية ترسّخت في الثّقافة الشّعبية منذ عقود و ربّما تكون نتيجة تراكمات قرونٍ قد خلت ، فتوجّب إجتثاثها و تغييرها طاقة عارمة و ديناميكيّة قويّة بهدف رتق الخرق العتيق الذي يفصل الدولة عن شعبها.
و مما أثقل الأجيال السابقة عقليّة "البيليك"، و هي عقلية سليلة حقبة الإستعمار و نتيجة ما رافقها من إحساس أليم بالقهر و الإستعباد و ما ترسّخ في النفوس من عقدة الخمّاس في أرضه المغتصبة ، الذي يعادي المعمّر و ليس له إلاّ أن يخدمه و يتفّ على ظلّه.
ومن المؤسف أن تتمدّد ثقافة الكره و الضغينة و إنعدام الثّقة هذه، لتسود علاقة المواطن بجمهوريته الأولى و من أهمّ إنعكاساتها؛ إستباحة المال العام و إستشراء التواكل و الإستكانة في مؤسسات الدولة و إداراتها و بين موظّفيها و أعوانها من جهة ، و عدم الإحساس بالمسؤولية نحو المرافق العموميٌة كملكيّة عامة مشتركة من قبل المواطن العادي من جهة أخرى. بل هي رزق البيليك في نظره فلا ضير في العبث بها و إتلافها، و من ذلك أنّ الطفل أوّل خروجه الى الشّارع يتعلّم رشق أنابيب الضوء بالحجارة و قلب صافحة القمامة وسط "الحومة".
و إنّما يعود ما سبق ذكره إلى تفشّي سلوك مَرَضِيٍّ متخلّف بين كبار موظّفي الدولة و حتى صغارهم و متوسّطيهم، يجعلهم إن واجهوا من هو أقلّ منهم قوّة و أوضع منهم مقامًا ، تكبّروا و تأفّفوا و أمعنوا في إذلاله.
و لخير مترجم لهذه الثقافة السّلطويّة المقيتة، صورة موظّف الإدارة الكلاسيكي، صاحب البطنة و المزاج الفاسد، ذلك الذي يسمح لنفسه بأن يكون فظّا متى شاء، و عديم الأدب و اللّياقة إن شاء، و أن يعطّل مصالح الضعفاء و لا يستحي من طلب "قهوته" بسفالة من الحرفاء، و حتىّ و ان نأى بنفسه عن كلّ ذلك فيعتبر إستثناء بل و ذو فضل عظيم و منّة جمّة لمجرّد قيامه بواجبه المهني في خدمة من أمامه.
فكيف كانت علاقة ثورة الشباب المتعلّم بدولته؟
إن ثورة الكرامة قامت لتواجه كلّ ذلك و تقطع معه ،في وعي و فطنة فطرية عجيبة، و قدرة خارقة على تفكيك الصّراع و مجاراته، و كأنّ أحفاد ابن خلدون يحملون في جيناتهم مجسّمه التحليلي لمثلّث (المجتمع، الدولة، فالحكم).
فكان أن اندفعت الثورة أوّل الأمر بسرعة و بسالة لتسقط رأس نظام الحكم و تكتفي بتأديب عصاه الأمنيّة بنيّة الصّقل لا البتر. و لم يكن إحراق بعض المؤسسات الأخرى إلا حوادث فرديّة منفصلة يشوب أكثرها شبهة إتلاف الأرشيف، لا نستطيع اعتبارها هجوما ممنهجا على الدّولة.
بل بالعكس فإنّ لجان الأحياء قاموا على حماية كثير من مرافق الدولة و إداراتها و إحتضنوا رجالاتها ( جماعة التجمّع و الشعب مثلا كان الجميع يعرفهم في أحيائهم و لم نراهم يسحلون في الشوارع) في مشهد حضاري رائع، صَاحَبَهُ فيض من المشاعر الوطنيّة و المسؤوليّة و الوعي بالمصلحة العامة و التآلف و اللّحمة.
فتحوّل ذلك الطفل الذي يكسر "كعبات الضوء" في الشارع فجأة ، الى حارس أمين يحمي حمى حيّه بأكمله و يفديه بروحه و دمه، و أحسسنا لأوّل مرّة بقدسيّة العلم و النشيد الوطني، حينما رأينا شهداءنا الأبرار به يكفّنون ، ثمّ على الأعناق يحملون و كأنّي بأرواحهم الزّكية تأبى على أجسادها إن وارت الثّراء ، الا أن تكون وأدا للصدع ورتقا للخرق الذي بين المجتمع و دولته.
اذ قبلت الجماهير الثورية بالتمشّي الدستوري لسدّ الشغور الحاصل في رئاسة الجمهورية، و كأنّهم يقولون للجميع أنه لا سبيل لمقارعة الفساد و الاستبداد إلاّ من خلال التّحصّن بالقانون لا الخروج عليه. ثمّ سعت بعد ذلك إلى تجديد شروط العقد الإجتماعي و المطالبة بمرحلة تأسيسية.
و مازالت تكمن و تترصّد و تحتسب الوعد و الموعد، فما تلبث أن يخفت لهيب نارها فيظنّ ناظرها أنّها تلاشت و إندثرت، حتى تعاود الإنقضاض وهّاجة. و مَثَلُها كمثل الشّعلة الأولمبية تنتقل من مدينة الى أخرى، و تسلّمها أيادي مجموعة إلى جماعة أخرى، فمن الحوض المنجمي 2008 الى انتفاضة 2010 في بني قردان فسيدي بوزيد و القصرين ثمّ صفاقس و صولا إلى أحياء العاصمة ذهابا، فجمنة لتأميم ما فوق الأرض و بني قردان لصدّ الدواعش مفسدي الأرض و الجمّ لرفض أمّ الخبائث وصولا للكامور و العرقوب لاسترداد ما اغتصب في باطن الأرض إيّابا.
فكانت تدفع عن الدولة يمنة و يسرة و تسعى جاهدة الى تكريس سيادتها و تقوية موقفها أمام المتربّصين و المغتصبين و تقلّم أظافر المستعمرين.
و بما أنّنا بصدد مواجهة ظاهرة جديدة لا تشبه سابقاتها في التاريخ، فإنّه لا عجب من إلتجاء جلّ النّخب العربيّة الرجعيّة الى المفاهيم التقليديّة ،فذلك أريح و أقلّ عناء من البحث و الدراسة و التمحيص، و هو ما جنته عليهم عقولهم المتكلّسة الغارقة في قيود الماضويّة التي ألِفَت الكسل الفكري و إستكانت إليه.
و قد كذب و افترى ،عن جهل أو لغاية في نفسه ،كل من روّج لعداوة الثورة للدولة، فما قامت والله الأولى ضدّ الثانية بقدر ما هو من أجلها و بغية تطهيرها من رجس الفساد و المفسدين و نزع ما علق بها من رفث التعجرف و الإستعلاء و لغسل أمعائها و تصفية دمائها حتى تنقذها من موتها السريري و تفاخر بها بين الأمم. و صحيح أن عمليّة العلاج و الحلاقة قد تكون في أحيان كثيرة مصحوبة بالألم و الحمى، إلّا أنّ الصبر على مُرِّ الدواء لحظات أهون من تجرّع آلام المرض لسنوات.
Comments
2 de 2 commentaires pour l'article 154191