ذكريات طفولة ... سعادة حياة و روعة حلم!! ( 4 )

ياسين الوسلاتي
[نواصل في هذه الحلقة الرابعة تذكر أجواء شهر رمضان المعظم.]
[نواصل في هذه الحلقة الرابعة تذكر أجواء شهر رمضان المعظم.]
في شهر رمضان المعظم وإثر تناول الإفطار نخرج إلى الحي فنلتقي مجددا لنمارس ألعابا مختلفة، ولكن كبار الحومة يؤنبوننا لأننا لا نذهب إلى الصلاة. وعندها صرنا نتوجه إلى المسجد لنصلي العشاء والتراويح بثماني ركعات فقط مع الشفع والوتر، ثم نلتقي ثانية، فنقسم سهرنا إلى مرحلتين: المرحلة الأولى تخصص للألعاب الحركية وكأننا نقوم بعملية هضم لما تناولناه في الإفطار، فإما أن نقيم مسابقة في العدو في طريق دائرية فينطلق اثنان منا في اتجاهين متعاكسين، ثم يفوز من يعود الأوّل إلى نقطة الانطلاق من الاتجاه الآخر، وبهذه الطريقة نمنع حدوث أي تحيل، وتتخذ هذه المسابقة شكلا إقصائيا إلى أن يفوز واحد منا في الأخير ويُتوج بطلا نخلع عليه لقب القمودي، وإما أن يمسك كل واحد منا بقصبة هي بمثابة السيف ونقيم حروبا وهمية متأثرين في ذلك بالمسلسلات التلفزيونية والأفلام التاريخية التي كنا نشاهدها على التلفزيون خلسة من أمام أبواب المقاهي بما أن أكثرنا لا يمتلكون أجهزة تلفزيون في بيوتهم. وأما المرحلة الثانية من ألعابنا فنخصصها للأنشطة الفنية، فكنا نفرش حصيرا أو "كليما" أمام أحد البيوت أو أحد المخازن ونجلس هناك للسهر ونمضي الوقت في الأحاديث الطريقة وإنشاء سكاتشات وأغان وتسجيلها في أشرطة كاسات... ومثل هذه السهرات تواصلت بعد أن تقدمنا في السن قليلا حتى بعد شهر رمضان المعظم، فكنا نجتمع ونتشارك في طبخ الطعام من المالح إلى الحلو (ويسمى ما نطبخه دقرة). ولعل أطرف ما يقع لنا هو حينما نأكل سمك "الشلبة"، فذات مرة اشترينا كمية منها وطبختها لنا أم أحد الأصدقاء وتناولناها. وحدثت لكل واحد منا حادثة غريبة لأن هذا النوع من السمك يأكل ـ حسب ما قاله لنا أحد البحارة ـ نوعا من الحشائش المخدرة، فمنّا من سقط من على سريره أو من الدكانة (بناء مرتفع على الأرض بحوالي ثمانين سنتمرا يكون على عرض الغرفة ويمتد على طول مترين ويُستعمل للنوم قبل وجود الأسرة، وعادة ما تكون الدكانة على يمين الداخل إلى الغرفة) ، ومنا من لم يقدر على النوم لأنه أصيب بعطش شديد ولأنه يشعر مرة وكأنه أكبر من الغرفة ومرة وكأنه أصغر من حبة فول، ومنا من يحسّ أنه بصدد الوقوع في بئر عميقة لا قرار لها، ومنا من كان ينهض من مكانه ويأخذ يتجول في البيت دون وعي منه، ومنا من يأخذ في الصراخ والمناداة على والدته وإن سألته ماذا يريد لا يجيبها ثم يعاود الصراخ والمناداة عليها ويمضي الليل كله على تلك الحال. ونقرر ألا نتناول الشلبة ثانية، ولكن ما نلبث أن نعود إليها لأنها لذيذة جدا، ولكن وجدنا الحل بعد ذلك وهو أننا لا نتناولها إلا في النهار، وبذلك يضمحل مفعولها السلبي حينما نخلد إلى النوم.
وأعود إلى شهر رمضان المعظم، فبعد تلك الألعاب التي ننجزها وبعد تسجيل الأغاني والسكاتشات نرجع إلى بيوتنا لتناول السحور مع عائلاتنا، و قد كنا نحرص على ذلك كل الحرص حتى نتمكن من قضاء اليوم صائمين في أفضل الظروف دون أن نضطرّ إلى تعليق صيامنا بسبب العطش أو الجوع خاصة وأن بداية صومنا تزامنت مع حرارة فصل الصيف الشديدة، وكنا نرفض أن نعلق صيامنا إذا شعرنا بنوع من التعب، فترانا فخورين بما نشعر به من عطش ونقف أمام المرآة لنشاهد ألسنتنا وقد ابيضت وتشققت قليلا بفعل الصيام، ولعل ما نخشاه دائما هو تلك العبارة التي تُوجّه إلى كل من يفطر رمضان وهي " فاطر رمضان خو الشيطان" . و بعد تناول السحور جيدا نخرج إلى الحي مرة أخرى، ولكن بعد الاتفاق على ذلك، فنسمع صوتا قادما من الصومعة يقول "سمسكوا يرحمكم الله" ويقصد" أمسكوا"، وكنا نحن بدورنا لا نقول الإمساك وإنما نتلفظ بعبارة "السمساك"، فنسارع إلى شرب الماء ونقصد الجامع لنصلي الصبح حاضرا.
آنذاك لم نكن نعير "البوطبيلة " أي اهتمام لأننا لسنا في حاجة إليه بما أننا نسهر إلى آخر وقت، وكنا نحن من يوقظ أفراد عائلاتنا، و لكن في الأيام العشرة الأخيرة من شهر رمضان المعظم وتسمى العواشر كنا نهتم بالبوطبيلة لأنه يرافقه مزاودي أو زكار، ولذلك يصير الأمر ذا طابع احتفالي أشبه بالمهرجان، ولكنه مهرجان في الثانية صباحا، فترانا بالعشرات نسير وراءهما منتقلين من حي إلى آخر ومن نهج إلى آخر مصفقين ومرددين أهازيج مختلفة في تلك الليالي الصيفية الساحرة ، والغريب أن لا أحد كان يحتج على ذلك الضجيج الذي نحدثه في الشوارع والأنهج والأزقة بل نشاهد الأهالي يخرجون من بيوتهم وعلامات الفرحة على وجوههم يشاركوننا ما نحن فيه من سعادة، فيشعلون الأضواء أمام بيوتهم، و تمرّ الأيام العشرة الأخيرة من شهر رمضان في لمح البصر كالحلم الجميل الرائع لنستقبل عيد الفطر المبارك وننتظر شهر رمضان القادم ونحن نردد تلك العبارة التي يرددها آباؤنا وأمهاتنا كلما تحدثوا عن المستقبل: "الحي كان عشنا..."!!
ذكريات طفولة ... سعادة حياة و روعة حلم!! ( 3 )
[ تحدثت في الحلقتين السابقتين عن ألعابنا. أما في هذه الحلقة الثالثة فسأعرض إلى علاقاتنا بالطعام والمأكولات.]
مصروفنا اليومي آنذاك في بداية طفولتنا لا يتجاوز عشرين مليما وأحيانا لا نحصل على مليم واحد. ولكن لم تكن لنا مشكلة في الحصول على بعض المأكولات الخاصة بنا... لا نتناول المشروبات الغازية إلا في المناسبات والأعياد، ولا نعرف للمرطبات طعما إلا نادرا... كنا نذهب إلى الحقول ونبحث عن نبتة لذيذة جدا تسمى الحرشاي، فنقوم باقتلاعها وقص جذعها الأخضر ونزع القشرة الخارجية عنه ثم نبادر إلى أكله وهو كما ذكرت غاية في اللذة... أيضا نجمع قرون الحلبة الخضراء ونقوم بتناول الحبوب الخضراء الصغيرة الموجودة داخلها... نأكل الخس والجزر والبسباس بعد تنظيفها جيدا ونجد في ذلك متعة لا تضاهيها متعة... نخرج أيضا إلى الحقول القريبة من البلدة ونجني التوت الأسود والأبيض والعربي، فنأكل ما نأكل هناك دون خشية التلوث الطبيعي أو الكيميائي، فقد كان المنتج آنذاك بيولوجيا مائة بالمائة، ونحن لم نكن ندري وقتئذ أنه سيأتي يوم يكون فيه هذا المنتج عملة صعبة لا يتوفر إلا نادرا و"بسيدي وسيدك "... وبعد أن نشبع من تناول التوت نملأ الأواني التي حملناها معنا ونعود بها إلى بيوتنا...
كما نرافق آباءنا في جني الغلال مثل العوينة والبيثر (نوع من التين كبير الحجم) والإجاص والتفاح والعنب والرمان والبرتقال والبوصاع، ونركب الأحمرة والبغال ونكون فخورين جدا إذا كــُلفنا بقيادتها... نسهم ونحن صغار في شق حبات العنب إلى جزأين لتـُـجفف ويقع الحصول على زبيب من نوع الرفيع دون النوى يسمى "الزبيب المشرح"، ونسهم أيضا في شق حبات التين إلى نصفين حتى تجفف ونحصل على الشريحة التي تـُخزن مع زيت الزيتون في قوارير بلورية. وكم نشعر بالسعادة إذا خصصت لنا أمهاتنا قوارير صغيرة تـُملأ بالزبيب مع شيء من اللوز المجفف والحمص وقطع الحلوى...
إذا أصابنا الجوع مساء ونحن في الشارع ننتظر حتى تكمل جداتنا وأمهاتنا طبخ الخبز في الكوشة (فرن تقليدي كروي الشكل به ثقبان أحدهما من الأعلى لتصعد منه النار والآخر من الأمام ليوضع منه الخبز داخل الفرن بعد إشعال الحطب والحصول على فحم مميز يسمى فحم الدار يستغل في ما بعد في طبخ الطعام، ويعد هذا قمة في اقتصاد الطاقة، ومازالت الكوشة مستعملة إلى الآن وتكون في مكان خاص يُسمى "الكشينة"، ولعل هذه الكلمة تحريف "لكوجينة" أو للعبارة الإنكليزية
كما تستعمل في أشياء أخرى مثل تجفيف الفلفل الأحمـــر وطبخ سمــــك السرديـــــن kitchen
وتجفيف الزبيب واللوز وشي الحمص والفول وتسخين الماء في "النحاسة"...) . نأخذ الخبزة (قطرها في حدود 20 سنتيمترا وســُمكها يتجاوز أحيانا 8 سنتيمترات) وهي مازالت ساخنة، ثم نقتطع منها جزءا كبيرا ونشقه على طريقة فريكساي اليوم ولكن ما أبعد هذه عن تلك، و نضع فيها قليلا من الفلفل الأحمر المهرّس في مهراس فخاري بعود من الخشب، ونضيف إلى الفلفل قطرات من زيت الزيتون، ثم نتناول كسرة الخبز بشراهة لا مثيل لها. وإلى يومنا هذا لم تقدر أية أكلة على تعويض تلك اللذة وعلى سد الفراغ التي تركته كسرة الخبز الساخنة "المصبّغة بالفلفل وزيت الزيتون"، فلا الفريكساي ولا البيتزا ولا الهامبورغر ولا الشوارما ولا غيرها من الأطعمة الحديثة الفاخرة قدرت على أن تنسينا تلك اللمجة. والطريف أن إذا خرج الواحد منا بقطعة الخبز تلك تسمع بقية الأطفال ينادونه من بعيد قائلين له: "خلّي باي" أي اترك لنا نصيبا مما تأكل، وهو يسرع في الأكل حتى لا يبقى من الكسرة إلا القليل....
في شهر رمضان المعظم كانت لنا طقوس خاصة، فنلتقي في المساء قبل أذان المغرب فنجتمع في الحي وننتظر الأذان في جو من المرح وسرد الطرائف والنكت. وحين يبدأ الأذان لا تسمع إلا عبارة واحدة تنطلق من الأفواه الصغيرة "أذّن... أذّن..." مع إطالة حركة الذال. ونسارع إلى الالتحاق ببيوتنا فنشرع في الإفطار، ويرافقنا عبر المذياع الكروان عادل يوسف في"رمضان ملء قلوبنا" والمرحوم عزالدين بريكة في سلسلة "شناب" الذي يضحكنا بمغامراته ويبعث في أنفسنا البهجة والفرح، وتسمعنا نتبارى في تقليده في تلك العبارة الشهيرة التي يرددها "أتــّــك ... أتــّــك..." !!
ذكريات طفولة .... سعادة حياة و روعة حلم !!( 2 )
[ في الحلقة الأولى تحدثت عن بعض الألعاب التي كنا نمارسها في طفولتنا وأواصل في هذه الحلقة الثانية ذكر ألعاب أخرى...]
كنا شغوفين بممارسة كرة القدم... نشترك في شراء كرة بلاستيكية ونكوّن مجموعات ونقيم دورات حماسية جدا، وتُــطلق على تلك المجموعات أسماء النوادي كالترجي والإفريقي والنادي الرياضي البنزرتي، ونتسمّى بأسماء اللاعبين المشهورين كعلي رتيمة وعلي الكعبي وطارق وتميم وعمر الجبالي وغميض والمرحوم محمد علي عقيد وكمال الشبلي وخالد القاسمي وعتوقة وبكاو. أما الملعب الذي نمارس فيه لعبة كرة القدم فهو عبارة عن ساحة صغير ة وسط الحي لا يتجاوز عرضها ستة أمتار وطولها عشرة أمتار ونظل لساعات نلعب دون كلل ولا ملل...
كان لدينا خيال واسع جدا، فنبتكر ألعابا تكون قريبة من واقعنا نقلد فيها الكبار، كأن نجمع الأوراق التي تـُلف بها قطع الحلوى ونعتبرها من الأوراق المالية ذات خمسمائة مليم أو دينار. أما الأوراق المالية ذات خمسة أو عشرة دنانير فكانت علب السجائر الفارغة بعد أن نجمعها ونفككها حتى تصبح أوراقا، ونعتبر أوراق علب السجائر المحلية عملة محلية، ونعتبر علب السجائر الأجنبية عملة أجنبية، ثم نعتمدها في معاملات تجارية مثل شراء الأبقار التي هي في الحقيقة مقابض الجرار و"القلال" المكسورة... كنا ننتقل من مكان إلى آخر لتــقليب الأبقار وشرائها ونقلها من مرابضها إلى إسطبلات وهمية، وكنا نقلد تجار الأبقار في حركاتهم وسكناتهم بالتفصيل وبكل دقة... يُعدّ مقبض الجرة الكبيرة بقرة حلوبا، أما مقبض القلة الكبيرة فهو ثور، وأما مقبض القلة الصغيرة أو "البوقال" (آنية من الفخار أصغر من القلة توضع فيها الماء) فهو عجل صغير....
صنعنا من العلب الصفيحية الجرافات والسيارات والشاحنات والقطارات والعربات المجرورة. وبنينا البيوت الصغيرة مقلدين في ذلك البنائين، وزودناها بالتيار الكهربائي باعتماد البطاريات الصغيرة، وأنشأنا خرائط لتونس وإفريقيا بالجبس ولونّاها بألوان زاهية...
قبل حلول فصل الصيف فصل السباحة نستعد لهذا الحدث استعدادا جديا... نصنع بأنفسنا الصنارات لصيد السمك... نشتري خيط الحرير والشصوص، ثم نجمع قطع الرصاص التي يقع إتلافها بعد إصلاح الحنفيات... نرقق قطع الرصاص بطرقها حتى تصبح رقيقة جدا في سُمك الورقة، ثم نجعلها أجزاء صغيرة ونضعها على النار في علبة معدنية صغيرة حتى تذوب وتصير سائلا، و قبل ذلك نكون قد أعددنا الأشكال التي نريدها وذلك عبر حفر الأرقام أو الحروف الأولى من أسمائنا بالعربية وبالفرنسية على "ظلف الهندي"، وإثر ذلك نسكب في الأشكال المحفورة سائل الرصاص، فنحصل على قطع مختلفة الأحجام والأشكال، فنثــقبها ونربطها بخيط الصنارة...
نتوجه إلى البحر، ويمضي بعضنا مدة زمنية هناك... أذكر أني أستيقظ باكرا قبل طلوع الشمس وأخرج إلى الشاطئ خلسة، أما الغاية فهي مشاهدة الشمس وهي تشرق و تظهر شيئا فشيئا قرصا أحمر من وراء تلك الصخرة الصامدة "القمنارية"(موجودة بشاطئ رفراف، ويبدو أنها تحريف لعبارة القمة النارية) أو "البيلاو"... إنه مشهد لرائع ولا في الأحلام، أظل أنظر إليها ولا أمل من ذلك أبدا... تلك الصخرة صارت جزءا منا ولا يمكن أن نتصور البحر دونها... كنت أرى أحيانا في منامي أن جانبا من تلك الصخرة قد تحطم وغمرتها المياه، فأستيقظ فزعا وكأن شيئا ما سُلب من روحي...
نخرج في الصباح في جولة عبر الشاطئ، ونسير لعدة كيلومترات لنصطاد السمك بالصنانير التي أنشأناها... كنا نتسابق أيّ منا يصطاد أكثر سمكا كمية و نوعا... نُوفق في اصطياد كميات كبيرة من السمك من المناني إلى المنكوس إلى الكحلاي إلى القرنيط، ونعود مظفرين ونقدم محصولنا لأمهاتنا ليطبخنه، ولكننا لا نأكل منه إلا القليل كأننا نشبع منه بمشاهدته ورؤيته فقط ... نمضي بقية اليوم في السباحة واللعب بالكرة وإقامة مسابقات في العدو على الشاطئ ذي الرمال الذهبية الغزيرة قبل أن تدمره اليد البشرية بالبناء الفوضوي... أما في الليل فنجمع كوما من الحطب ونشعله في مكان قريب من الماء ونظل ندور ونقفز حول النار كأننا من عبدتها. وكم نشعر بالمتعة و نحن نحس بأن اللهب يلفح وجوهنا وأن عيوننا تدمع بفعل الدخان المتصاعد، لم أدر إلى اليوم لماذا كل تلك الرغبة التي تنتابنا لإشعال النار..؟؟!! إنه لأمر غريب ولا شك....

ذكريات طفولة .... سعادة حياة و روعة حلم !!( 1 )
كنا مجموعة من الأصدقاء نتجاذب أطراف الحديث وننتقل من موضوع إلى آخر حتى انتهى بنا المطاف إلى أن يتذكر كل واحد منا خصائص الحياة في طفولتنا مع مقارنتها ضمنيا بما هي عليه حياتنا اليوم من مميزات... أجمعنا كلنا على أننا كنا في طفولتنا سعداء كأجمل ما تكون السعادة على الرغم من شظف العيش وصعوبة الحياة ... لا نشعر بالقلق ولا بالضجر ولا بالملل ولا بالرتابة والروتين لأن حياتنا كانت ثرية ومتنوعة...
نحرص دوما على أن نكون سعداء ونخلق بإصرار واضح الأجواء المناسبة لتحقيق هذا الهدف ذي الأولوية المطلقة في حياتنا... كانت ألعابنا بسيطة جدا لا تحتاج أبدا إلى إمكانيات ولا إلى أموال... نصنع لعبنا بأنفسنا ونحن بارعون في ذلك أيما براعة... نستنبطها من واقعنا الاجتماعي والفلاحي والمعماري... تبعث في نفوسنا الصغيرة النشوة الغامرة والفرحة الدائمة... لا نشتري لعبنا لأننا لسنا قادرين على شرائها ولأنها ليست متوفرة في بلدتنا...
ألعابنا مختلفة وموسمية، فهي مقترنة بالعوامل الطبيعية وبالإطار الذي نمارسها فيه... هناك موسم الكجات (أو البيس)، فترانا نجمع منها عددا كبيرا مختلف الألوان والأحجام، وتكون بلورية أو خزفية أو معدنية... توفر لنا الكجات أكثر من لعبة ممتعة للغاية تجعلنا لا نشعر بثقل الوقت وهو يمر...
وأيضا موسم "النحلة" (الدوامة) التي نشتريها جاهزة مع "القيطن" (وهو الخيط الذي يـُـلفّ حولها حتى تدور على نفسها بسرعة فائقة)، وفقط نغير فيها المسمار بحيث يصبح طويلا وحادا جدا حتى تدور على نفسها أكثر ما يمكن من الوقت، و"النحلة" التي تظل تدور أكثر وقت ممكن نخلع عليه لقب "الزحتة". ومع النحلة نجد "الزربوط " الذي ننشئه بأنفسنا من الخشب، فنتفـنّــن في صنعه حجما وشكلا، ونتبارى ونتنافس في ذلك...
وثمّة موسم "الداما" و"الطابوات" (وهي الأغطية المعدنية والبلاستيكية الخاصة بالقوارير نملأها بالطين) ونرسم على الأرض دائرة مرتبطة بطريق ملتوية، وعلى اللاعب أن يمرر تلك "الطابوات" في الطريق الملتوية دون الخروج منها حتى يصل إلى الدائرة ويعود منها مع وجود حواجز في تلك الطريق، وتُمارس هذه اللعبة بالتداول بين لاعبين اثنين ولكل واحد منهما الحق في أن يدفع الغطاء بإصبعين اثنين ثلاث مرات متتالية، وتتطلب هذه اللعبة الدقة والذكاء والحيلة حتى يكون النجاح حليف من يمارسها...
وهناك موسم "التصاور" (بطاقات صغيرة تحمل صور حيوانات متوحشة وأخرى أليفة)، إذ أن الواحد منا يفتخر بما يملكه من عدد كبير من صور الحيوانات، وتسمى الكمية من تلك الصور "خزيبة" (وهي على ما يبدو تحريف لكلمة خزينة)، وإذا كانت إحدى الصور قديمة ومتآكلة ولونها باهت وفي حالة يرثى لها نطلق عليها اسما غريبا عجيبا طريفا يضحكنا كثيرا وهو "خردة نـنّــش"... وكانت بيننا منافسة حادة، إذ نحرص على جمع أكبر عدد ممكن من الصور النادرة. وكانت هناك مقاييس ومعايير تحدد جودة هذه الصورة أو تلك على نحو الخط الأبيض الدقيق الذي يؤطّر الصورة ومثل نوعية الورق الذي تصنع منه البطاقة، فالصورة الجيدة هي التي يكون لون قفاها أبيض يميل قليلا إلى الصفرة ولا يكون رماديا. وهناك من الأطفال من يبيع الصور النادرة لأترابه بخمسمائة مليم للصورة الواحدة، بينما ثمن الصورة العادية لا يتجاوز عشرة مليمات أو عشرين مليما. وهذا دليل على ولع كثير من الأطفال بجمع الصور النادرة التي يُــطلق عليها شــــعار "ورّيها وخبّيها". والغريب أن هناك من لا يبيع صوره ولو بمبالغ كبيرة لأنه بدوره شغوف بجمعها وليس مستعدا للتفريط فيها...
ترافق هذه الألعاب أحيانا ممارسات يرفضها أكثرنا، إذ يتحيل البعض على الأطفال ليسلبهم ممتلكاتهم من الكجات والصور كأن يبادر أحدهم إلى وضع كمية من الصلصال في أسفل حذائه، ثم يتوجّه إلى المواقع التي يلعب فيها الأطفال بالكجات، فيدوس على البعض منها، فتلتصق بحذائه وكأن شيئا لم يكن، ثم يبتعد قليلا عن مكان اللعب لينتزع الكجات من الحذاء، أو كأن يمسك بمقص ثم يدخله في جيوب الأطفال ليخرج منها بواسطته الصور دون أن ينتبهوا إلى ذلك. ولئن كنا نرفض مثل هذا التصرف فإننا لا نجرؤ على التصدي لهؤلاء المتحيلين أو إخبار المتضررين بالأمر...
في ذلك الوقت كان القليل منا من يمتلك دراجة، فنلتجئ ـ تعويضا للدراجة المفقودة ـ إلى أن نصنع بأنفسنا "كريطة" صغيرة اعتمادا على ألواح خشبية نحصل عليها من الصناديق التي لم تعد صالحة لنقل البطاطا أو العنب وعلى عجلات معدنية نحصل عليها من أصحاب الشاحنات الصغيرة... كنا نتفنن في صنع الكرارط فنجعل لها مقودا صغيرا نثبّت في أسفله عجلة واحدة، أما في الخلف فنثبـّت عجلتين تكونان أصغر من العجلة الأمامية، وفي ذلك حكمة لأن من يركب الكريطة ينبغي أن يكون مائلا إلى الخلف حتى لا يسقط إلى الأمام باعتبار أنّ في العادة لا تُستعمل الكريطة في الطرقات المنبسطة وإنما في الطرقات المعبدة المنحدرة حتى تسير بسهولة دون أن يحتاج راكبها إلى مساعدة من أحد... نزركش الكرارط التي نصنعها ونزينها، وكل طفل يسعى إلى أن تكون كريطته متميزة عن البقية بألوانها و طريقة صنعها وفي "الأبسيونات" التي تتوفر عليها مثل المنبه والمكبح والعداد الكيلومتري الوهمي والأضواء التي تشتغل بالبطارية الصغيرة. و لكن السلبية الوحيدة لهذه اللعبة أنها تصدر ضجيجا قويا مزعجا كثيرا وموترا للأعصاب على الرغم من أن الضجيج في تلك الفترة كان محدودا جدا...
Comments
1 de 1 commentaires pour l'article 151807