
كيف يغيّر انتخاب الباباوات ملامح مدنهم ويجعلها وجهات سياحية؟ Bookmark article

تكتسب الأماكن التي ينحدر منها باباوات الفاتيكان ملامح جديدة بعد اختيارهم لقيادة رأس الكنيسة الكاثوليكية. ومع الإعلان عن اختيار أول بابا أمريكي، هو البابا ليو الرابع عشر، الشهر الجاري، هل تصبح مدينة شيكاغو مرشحة لتصبح منطقة جذب سياحي؟
مع تصاعد أعمدة الدخان الأبيض في سماء العاصمة الإيطالية روما الأسبوع الماضي، معلنةً انتخاب البابا الجديد، توجّهت أنظار العالم نحو مدينة الفاتيكان. بيد أن قصة البابا الذي يرأس الكنيسة الكاثوليكية لم تبدأ من ساحة القديس بطرس، بل من مكان بعيد تماماً. ففي سابقة تاريخية، تولى منصب البابا شخص أمريكي.
خرج البابا ليو الرابع عشر، الذي وُلد على بُعد 4800 ميل في "ساوث سايد" بمدينة شيكاغو، إلى شرفة كاتدرائية القديس بطرس في الثامن من مايو/أيار ليلقي كلمته الأولى أمام حشد يزيد على أربعين ألف شخص.
ويقول مايلز باتيندن، المحاضر في جامعة أوكسفورد والمتخصص في شؤون الكنيسة الكاثوليكية: "عمّ الفرح الحشد المجتمع في الساحة، وساد جو من الحماسة، لكن رافقت تلك اللحظات أيضاً شهقات من الدهشة، إذ لم يكن كثيرون يتوقعون اختيار هذا الاسم، وكانت فكرة اختيار بابا أمريكي بعيدة المنال على مدى النصف الثاني من القرن الماضي، ولهذا عمّ شعور بالدهشة".
لم تكن الكلمات الأولى التي وجهها البابا ليو للجموع باللغة الإنجليزية، بل اختار أن يتحدث بمزيج من الإيطالية والإسبانية، في لفتة ترمز إلى مسيرته التي امتدت لما يزيد على عشرين عاماً في بيرو، في رمزية على أن هويته تتخطى حدود الوطن الواحد.
ويثير ذلك تساؤلاً مهماً: كيف يُشكل موطن البابا الأصلي ملامح قيادته؟ وكيف تتغيّر تلك المواطن في المقابل نتيجةً لتلك العلاقة؟
يقول نيك سبنسر، زميل بارز في مركز "ثيوس" للأبحاث: "لا تنفصم العلاقة بين البابا وموطنه على الإطلاق. فعلى الرغم من كاثوليكية الكنيسة بالمعنى الشامل، إلا أن الباباوات ينحدرون من أماكن بعينها، وتتكوَّن شخصياتهم عبر تجارب محددة".

كان ذلك واضحاً في شخصية البابا يوحنا بولس الثاني، المولود في مدينة وادوفيتسه البولندية، بحسب قول سبنسر، الذي يضيف: "لا يمكن تصور فترة توليه بابا الفاتيكان دون الإقرار بنشأته البولندية وحياته تحت ظل نظامين دكتاتوريين مختلفين في بولندا".
تعد وادوفيتسه مدينة صغيرة تقع في جنوب كراكوف، كانت ذات يوم منطقة هادئة ومتعددة الثقافات ضمن إقليم جاليسيا، ولكن بعد اعتلاء البابا يوحنا بولس الثاني الكرسي البابوي، كأول بابا غير إيطالي على كرسي القديس بطرس خلال 455 عاماً، وامتدت فترته من عام 1978 حتى عام 2005، تحولت المدينة إلى مقصد رئيسي للزائرين الكاثوليك.
يقول سبنسر: "في أواخر سبعينيات القرن الماضي، كانت بولندا بلداً تتسم بطابع كاثوليكي صارم، لكن حقيقة وجود بابا بولندي أشعل الحماسة بشكل كبير"، في انعكاس واضح لتأثير الباباوية على موطن البابا يوحنا بولس الثاني.
وفي الوقت الحاضر، يتوافد الزائرون إلى منزل العائلة البسيط الذي وُلد فيه البابا يوحنا بولس الثاني، والذي تحوّل إلى متحف، كما يتوافدون على كنيسة الرعية التي كان يخدم فيها والساحة التي كان يلهو فيها أثناء فترة طفولته.
وخلال الفترة بين 1996 و2019، سجّل عدد السائحين الدوليين الذين زاروا المتحف زيادة تجاوزت الضعف، وفقاً لدراسات لجنة الجغرافيا الصناعية التابعة للجمعية الجغرافية البولندية، مع تسجيل ذروة ملحوظة في عام 2005، وهو عام وفاة البابا يوحنا بولس الثاني، وفي عام 2018، احتفى المتحف باستقبال زائره المليون.
ويلفت باتيندن إلى أن ذلك يدل على جاذبية المكان، مضيفاً أن "الزيارات الدينية تحتل أهمية كبيرة بالنسبة للكاثوليك، لأنهم يؤمنون بسحر الأشياء المادية، بما في ذلك أجساد ورفات القديسين، والأدوات التي لمسوها. ولهذا السبب يلجأون إلى زيارة مسقط رأس القديس، ليتبرّكوا بقربهم من هذه المقدسات".
وعلى الرغم من ذلك، ليست كل مدينة ينحدر منها بابا الفاتيكان تُدرج ضمن دائرة الاحتفاء، فعلى الرغم من شغله منصب رئيس أساقفة بوينس آيرس لأكثر من عشر سنوات، قام البابا فرنسيس، الذي تُوفي في أبريل/نيسان الماضي، بجولات عبر عدة قارات، وزار 68 دولة خلال اثني عشر عاماً من توليه الباباوية، لكنه لم يزُر الأرجنتين.

وسواء اعتبرت تلك خطوة حيادية في ظل السياسة المتوترة في بلاده، أو إعلاناً صامتاً يهدف إلى التركيزه على الشأن العالمي، فقد كان غيابه ملحوظاً. وعلى النقيض من نشاط الزيارات السياحية في أماكن مثل مدينة وادوفيتسه، لا يزال مسقط رأس البابا فرنسيس حتى الآن موطناً أكثر منه للعبادة.
وعلى الرغم من ذلك، أثّرت أصوله الأرجنتينية في كيفية تصوّر الناس له، إذ عُرف البابا فرنسيس بلقب "بابا الشعب"، وهو لقب استمده من نمط حياته المتواضع، وعمله في الأحياء الفقيرة في بوينس آيرس، وتواصله السلس مع عموم الناس، كما ساهمت خلفيته في تعزيز صورة عامة جسدت التواضع، والقرب من الناس، والاهتمام بالطبقة العاملة.
وكان لمولد البابا يوحنا بولس الثاني في بولندا تأثير بالغ في رؤيته العالمية، إذ نشأ وعايش فترة حكم نظامين قمعيين: الاحتلال النازي أولاً، ثم النظام الشيوعي المدعوم من الاتحاد السوفيتي ثانياً، كما تميزت فترة باباويته بالتزامه بحقوق الإنسان، وحرية المعتقد، والمقاومة الأخلاقية، وأصبح صوتاً بارزاً ضد الطغيان الشمولي.
وخلال زيارة تاريخية إلى بولندا في عام 1979، كان نداءه، "لا تخافوا"، يحمل أثراً عميقاً في نفوس أبناء بلاده، مما ساعد على تحفيز حركة التضامن التي أسهمت في نهاية المطاف في انهيار الحكم الشيوعي.
وفي الوقت الذي نجحت فيه مدينة وادوفيتسه في تحويل الورع إلى رحلة دينية، احتفظت أماكن باباوية أخرى بإرث أكثر تميزاً. ففي قرية شاتونوف-دو-باب، وهي قرية تقع في كروم جنوب فرنسا، لا تزال بصمات باباوات العصور الوسطى تظهر جلياً في النبيذ المحلي للمنطقة.
ففي مطلع القرن الرابع عشر، شهدت الباباوية انتقالاً مؤقتاً من روما إلى أفينيون في جنوب فرنسا، وهو حدث شكّل تحولاً بارزاً في تاريخ الكنيسة، إذ أقام سبعة باباوات فرنسيين على التوالي في المدينة خلال الفترة من عام 1309 حتى 1377، هرباً من الاضطرابات السياسية في روما وجذباً لنفوذ التاج الفرنسي.
ويُطلق غالباً على هذه الفترة اسم "باباوية أفينيون"، إذ شهد البلاط الباباوي ازدهاراً من حيث مظاهر العظمة، ولا يزال إرثها قائماً في قصر الباباوات، وهو حصن قوطي كان في يوم من الأيام مركزاً روحانياً للكنيسة الكاثوليكية، وعلى الرغم من ذلك، أثارت تلك الفترة جدلاً واسعاً، ووُجهت لها اتهامات بالفساد وسيطرة فرنسا المفرطة.
كان أحد الباباوات، وهو البابا يوحنا الثاني والعشرون، الذي ينحدر من مدينة كاهور جنوب فرنسا، قد أمر ببناء مقر صيفي جديد في قرية مجاورة، تُعرف اليوم باسم شاتونوف-دو-باب، أو "القلعة الجديدة للبابا"، استُخدم هذا القصر كملجأ حصين وضيعة للكروم، مستفيداً من الموقع المرتفع للمنطقة والظروف الملائمة لزراعة الكروم.

ولا يزال النبيذ المنتج يحمل شعار الباباوية، المتمثل في مفتاحي القديس بطرس المتقابلين والتيجان الباباوية، كما يمكن للسائحين المشاركة في جولات تجمع بين هذا التاريخ الباباوي العريق وتذوق النبيذ المصنوع من كروم تعود إلى قرون مضت.
وعقب انتخاب البابا ليو الرابع عشر مؤخراً، تحوّلت أنظار العالم إلى أصوله في مدينة شيكاغو، وكما هو الحال في الولايات المتحدة، أثارت ولاءاته الرياضية جدلاً واسعاً، حيث دارت مناقشات بشأن إذا كان من مشجعي فريق الكابز أم الوايت سوكس (وقد أكّد شقيقه أنه من مشجعي الوايت سوكس)، بيد أن الخبراء يشيرون إلى أن مسيرته قد تختلف عن التوقعات التقليدية.
ويقول باتيندن: "إنه (البابا الجديد) أمريكي، لكنه قضى الجزء الأكبر من حياته في أمريكا اللاتينية، ومن اللافت أنه لم يتحدث الإنجليزية أثناء تحيته الأولى، ويشير كل ذلك، بحسب وجهة نظري، إلى أنه يحاول الابتعاد عن هويته الأمريكية".
ويضيف سبنسر: "فضلاً عن كونه بابا أمريكياً، فإن ليو يُعد بابا بيروفياً بصورة عميقة جداً، ومن المتوقع أن تكون الروح الدولية متأصلة فيه، وسيكون من المثير متابعة إذا كان لهذا الأمر أي أثر ملموس".
والسؤال هل ستحتضن شيكاغو مثل هذه اللحظات الروحية؟ سنرى، إذ من المحتمل أن تستجيب رعايا المدينة والجماعات المهاجرة لهذا التركيز الروحي الجديد، وقد يتوافد السائحون يوماً ما على شوارع ساوث سايد، كما يفعلون الآن في مدينة وادوفيتسه البولندية، أو ربما تظل مركزاً هادئاً يُحترم دون تبجيل، كما هو الحال مع مدينة بوينس آيرس الخاصة بالبابا فرنسيس.
ويبدو واضحاً أن الصلة التي تربط بين البابا والمكان تبقى لفترة أطول من تلاشي الدخان الأبيض، الذي يعلن اختياره لتولي منصب البابا، هذه الصلة عدسة يُعاد من خلالها تفسير إرث البابا وإعادة تصوّره.
فمن ملصقات النبيذ في جنوب فرنسا إلى الرحلات المدرسية في بولندا، تتغير هذه الأماكن بفعل قربها من السلطة، وبحكم وظيفة البابا، وبحضور المؤمنين الباحثين عما هو أكثر من مجرد مسقط رأس هذا البابا.
- الكونكلاف: ما هي طقوس انتخاب "الحبر الأعظم" بابا الفاتيكان الجديد؟
- ماذا نعرف عن "ليو الرابع عشر" بابا الفاتيكان الجديد؟
- ليو الرابع عشر: ماذا وراء الأسماء التي يختارها باباوات الفاتيكان بعد انتخابهم؟
