كيف راوغت ماركل أشباح الماكينة الأصولية

أيمن عبيد
ألمانيا
ألمانيا
عانت من الإستهزاء و لاحقتها التهكمات، من "خليلة هالموت كول" إلى "ربّة البيت الشفابيّة" و "الماما انجي"، إلا أنها ضربت كل ذلك بعرض إنجازاتها الشامخة، و حبّرت رسائل الردّ بالدموع و العرق، فأبت الترجّل الا و قد قلّدتها مجلة "فوربس" الأمريكية لقب "الإمرأة الأقوى في العالم" لثمان دورات على التوالي، و أصبحت الدنيا جمعاء تناديها بقائدة العالم الحرّ.
شقت طريقها بتؤدة و لكن بعناد شديد، في مجال كان قبل قدومها حكرا على الأقوياء من الرجال، فأضحت رمزا و قاطرة للتمكين السياسي للمرأة، فبعد أن كان صعودها كأول رئيسة لحزب "سي.دي.أو" في سنة الالفين محلا للاستعجاب، أصبح اليوم كل فريق قيادي تغيب عنه النساء محطّا للإستهجان. كما أنها كأصيلة لحركة الصحوة الديموقراطية و كأول ألمانية شرقية تترأس الحزب، كانت بُعيْد عشريّة من توحد الألمانيتين و اندماج الحزبين، أبلغ اعلان عن نجاح الوحدة و الانصهار و تكافؤ الفرص بين الشرقي و الغربي. أضف إلى ذلك ما يحمله نجاح ابنة قسّيس بروتستانتي في التموقع السريع في حزب ذو أصول كاثوليكية، من معاني التسامح و الثراء، و الزيادة في التأكيد على أن الإتحاد هو المظلّة الجامعة لكل المتديّنين المسيحيين.
انها بإختصار "أنجيلا ماركل"، التي كان مجرد تواجدها في موقعها، أثبتَ دليلٍ على توجه الثقافة السياسية في ألمانيا للقطع مع كل ممارسات التمييز العنصري، على أساس الجنس او المذهب او الجهة، و احتفاظها بمعياريين وحيدين للتفاضل هما: الكفاءة و الأمانة.
لقد كانت صكّ الغفران الألماني، و رسالة التوبة من التاريخ النازي، و تذكرة الجواز إلى المستقبل الجديد.
فبعد أن ترسخت صورة ألمانيا في مخيال الشعوب، مرتبطةً ب"هتلر" و محارق التطهير العرقي، ها انها اليوم قد أضحت مزدانة بذلك الوجه البريء و الملامح الهادئة لذات الشعر الأشقر، رمزا للتسامح و الرخاء و الأخوة الإنسانية.
لقد كانت فعلا محرّكا للتغيير، فرغم ما يروج عنها من انها ليست من اهل الفكر و لا أصحاب الرؤى الإستراتيجية، إلا أن استعانتها بأهل الذكر في ذلك، جعلها تدرك أن تطوير الحزب و تحديثه، ضرورة حيوية له.
فجدّت في تحويله من عصبة أيديولوجية جامدة، الى ورشة حلول و موزّع أجوبة، على مشاغل المواطنين و تحديات الوطن، مما جعله أكثر جاذبية لشرائح مجتمعية جديدة، من الأكاديميين و النساء و الشباب، و لم يعد يكتفي بالمنظمات الكنسيّة كمزود وحيد لخزان موارده البشرية.
و إذ ارتكز نهجها في الإصلاح على نسبيّة الحقيقة، و هو ما عبرت عنه في خطبة الوداع بقولها: "عندما نقتنع بأن الحكمة ليست حكرا علينا، حينها فقط سنتفطّن لمدى أهمية مشاهدة العالم بأعين مخالفينا"، فقد كان ابتعادها عن دغمائية الأحكام المطلقة و موازنتها بين القِيميّة و البراغماتية، بالضرورة هجرا لمواقع المحافظين التقليدية و مواقفهم الراديكالية، بل أنها أخذت تتماهى في كثير من مقارباتها مع مدارس فكرية منافسة، حتى عاد يصعب على المراقبين التفرقة بينهما، فكان شعارها دائما:
"نهندس السياسات على ضوء مبادئنا، و لكننا نبنيها على ارضية متطلبات واقعنا".
فأخذت تعيد تعريف الحزب و إنتاج أسسه المفاهيمية، حتى جرّته جرّا إلى وسط المشهد السياسي، و اضحى أقرب إلى اليسار الليبرالي منه إلى اليمين المحافظ.
و رغم أن هذا التمشي، كان منقذه من الإندثار، كأغلب اخواته من حركات المسيحيين الديموقراطيين في أوروبا، التي مثلت نهاية الحرب الباردة و زوال خطر الشيوعية الملحدة، إنتهاء لغائيّتها الوجودية في مواجهته.
الا أن عوامل عدة، تظافرت لتضعف موقفها الداخلي، و توفر مناخا مناسبا لارتفاع أصوات معارضيها و أصحاب الثارات القديمة.
فقد أصبحت روح مشروعها الإصلاحي الانساني، محاصرة بأشباح النوستلجيا القومية في العالم و ضلال الأصوليين القدامى داخل الحزب و عفاريت الشعبوية اليمينية في بلادها، التي أخذت تقضم من أطراف قواعدها الانتخابية، أضف إلى ذلك تذبذب التوافق الحكومي، و خاصة أزمة اللاجئين و ما صحبها من موجة الاسلاموفوبيا و إثارة لمعضلات الاندماج.
كل ذلك مثل مادة ثرية لتيار الردّة الأصولي، الذي أخذ يتهمها بإذابة هوية الحزب، و اضاعتها لشعبيته و قواعده الصلبة. فلم يشفع لها نجاحها في إعادة تأهيل الحزب و تطهير صورته، و هي التي استلمته في ظرف سياسي و معنوي و مالي صعب، على إثر فضيحة التمويل الفاسد التي طالت رئيسه "شويبلا"، بل إن هذا الأخير و جمعه من الذئاب القديمة، رغم ما جرّوه على الحزب من ويلات، كانوا في مقدمة المتصيّدين المطالبين برأسها السياسي.
و مع اشتداد الخناق أعلنت المستشارة تخليها عن رئاسة الحزب، لتسجل إنسحابا لا يقل تاريخية عن صعودها و لا مسيرتها.
و يظهر أن وقوع الاختيار على "هامبورغ" لإحتضان مؤتمر الوداع لم يكن اعتباطيا، فهي المدينة التي استقبلت قدومها إلى هذا العالم في 1954، و من ثمة ولادة مسيرتها الحزبية في مؤتمر 1990، و كأنها تقول للجميع
ان المحفل لن يكون حفل تأبين لمشروعها بقدر ما هو احتفال بميلاده الثالث و تبشير بالنسخة المحيّنة من ميركل 2.0، فعندما يخشى المرء الضياع يعود للمنطلقات، لا ليركن و ينسحب، إنما ليستعد لاقلاع جديد.
و قد توافقت تلك المعاني مع الظرفية الزمنية، التي يستعد فيها الجميع لإحياء عيد المسيح و استقبال السنة الجديدة، فإنطلق المؤتمر في أجواء روحانية و صلاة ربّية، تخللتها موعضة دينية مفادها:
"لا حياة للإنسان مع الخوف، و إنما يعيش الانسان بإحياء الثقة و تجديد الإيمان"
و لم تكن تلك السمات الوحيدة التي جعلت من اللحظة منعطفا تاريخيا بكل المعايير، فالاتحاد المسيحي الديموقراطي لم يعرف منذ 1971 انتخابات فعليّة و علنيّة لإصطفاء رئيسه، مما جعلها التجربة الاولى لأغلب المؤتمرين. فعلى طيلة العقود 4 المنقضية، انتقلت صراعات القادة على القيادة، لتدار في دهاليز الغرف الخلفية بعيدا عن الأضواء، لتطبخ على رويّة في منأى عن الضوضاء، فما كانت تخرج إلى أنوار قاعات المؤتمرات الا و قد نضجت توافقاتها و اجتمعت على مرشح وحيد، ما يلبث أن ينال نصيبه من شرعية التصويت دونما اي منافس آخر.
و على هذه الشاكلة انتقلت القيادة من "هالموت كول" ثم "شويبلا" وصولا إلى "ميركل". و ربما كانت هذه الطريقة أقرب إلى التآمر منها إلى الإئتمار في الأمر -رغم أن المؤتمرات لغة تحتمل كلا المعنيين، فيسمى المشاركون فيه بالمؤتمرين او المتآمرين- و بعيدة عن طهوريات الديموقراطية الملائكية التي تتلبّس البعض أو يتلبسون بها، إلا أنها بمنطق الواقعية أثبتت نجاعتها و انها الأنجى.
فبينما تنعّم "السي.دي.أو" بإستقرار قيادي على مدى 18 سنة الأخير، تعاقب على رئاسة منافسه التقليدي "أس.بي.دي." 10 رؤساء، فكانت انعكاسات ذلك جليّة بإنقلاب موازين القوى رأسا على عقب، لحزب انتقل من المعارضة ليستتبّ له الحكم، و آخر تراجع من المرتبة الأولى ليصبح الثالث او الرابع في البلاد.
فليس من السهل بتاتا، على حزب يضمّ بين طياته مختلف الشرائح الاجتماعية، و كمّا هائلا من تكتلات القوى تمثلها ثمان قطاعات إتحادية، و مجموعات من شبكات المصالح و اللوبيات، علاوة على ثلاث أجنحة رئيسية (المحافظون، الليبراليون، و الإجتماعيون المسيحيون) و جملة من التيارات الفكرية و المذهبية، أن يخاطر بإخراج تفاعلاته الداخلية إلى العلن الجماهيري، التي قد تنفث بإصطفافها في نار الصراع، واقودا عاطفيا حارا، فيصعب بعد ذلك اخمادها.
إلا أن حقائق العصر و ثورته المعلوماتية، التي جعلت خبر تراجع ماركل عن الرئاسة، يتصدر صفحات التواصل الإجتماعي، قبل حتى ان تغادر هذه الأخيرة الإجتماع المغلق الذي أعلنت فيه عن قرارها المفاجئ ذاك، لم يترك حيزا كبيرا للكواليس.
أو الأرجح أنها قناعتها، بأن مشروعها المحتضر تحت وطأة تتالي الهزات و تربص أصحاب الثارات، لن تكتب له مواصلة الحياة، إلا إذا هاجرت روحه إلى جسد يافع، ثم أطعم ذلك الجسم الجديد بجرعة مشروعية عالية، مأتاها الوحيد الإنتخابات الحرة و الشفافة.
فكان أن حسمت أمرها في اقتحام المجهول و المخاطرة، فيما يشابه نظريّة التقمّص و تناسخ الأرواح عند الهندوس و الدروز، ففصلت بين شخصها و أفكارها، لتهب هذه الأخيرة أنفاسا جديدة، أو تهديها على الأقل جنازة ديموقراطية تليق بفحواها.
فانفتح السباق الانتخابي على مصرعيه، بحملة و أدوات غير مسبوقة لصناعة الرأي، تمثلت في 8 ندوات جهوية، جاب فيها المتنافسون 3 نصف المقاطعات الألمانية، ليطرحوا رؤاهم المستقبلية، أمام قواعدهم الحزبية.
و من طرائف الأمور، أن المترشحين كانوا يمثلون 3 شرائح عمرية و كل الأجناس: ذكر، انثى، و مثلي جنسي.
الا أن الخلفية القيمية للحزب، لعبت دورا حاسما في دفع الصراع ليحتدم بين المرأة و الرجل، و إقصاء الجنس الهجين.
و يبدو أن الفريقين قد أحسنوا إعداد العدة، منتظرين ساعة الصفر بفارغ الصبر، فممثل الحزب القديم، و مستشار عملاق إدارة الأصول المالية العالمي "بلاك روك"، المليونير "فريدريش مارتز"، قد انقضّ من بعيد، بعد دقائق معدودات من انتشار الخبر، و هو الذي هجر عالم السياسة منذ قرابة عقدين من الزمن. بما يوحي على جاهزية الحزب العميق، و اجتماع كلمته على الرجل، فما كاد يعلن ترشحه، حتى تخندق وراءه لوبي الأعمال و جناح المحافظين، المنتظمين تحت ألوية قطاعي "اتحاد الطبقة الوسطى و رجال الإقتصاد" و "اتحاد القيم المسيحية"، و سارعت زعاماتهم بالمجاهرة بدعمهم له، بداية من رئيس "البونستاغ"، مرورا ب"كوميسار" الإتحاد الأوروبي، وصولا إلى عمدة المدينة البنكيّة "فرانكفورت"، و قد كانت توجهاتهم واضحة في ضرورة العودة إلى الجذور، و منافسة اليمين المتطرف في نهجه، رافعين شعار:
"الوسطية الجديدة تسكن على يميننا".
و أما جواد "ميركل" الأدهم، فقد انتقته بدقة عالية و وضعت بين يديه كل ممكنات النجاح.
فقد كان من الطبيعي أن تختار امرأة، حتى يسهل عليها ضمان دعم اللوبي الشّاد على عضدها، و هو قطاع "اتحاد النساء"، و الذي تمثل منظوراته أكثر من 34% من المؤتمرين، كما أن تلك المرأة كانت من ألمانيا الغربية التي ينتمي إليها 89% من المؤتمرين، و كذلك هي سليلة الكنيسة الكاثوليكية و تلتقي في هاذين مع بقية المترشحين. و بذلك يكون اختيار "ميركل" قد حيّد معطى الجهة و المذهب، ليجعلها أرضية للتنافس المشترك، و لكنه في المقابل قد فعّل معيار الجنس ليكون مصعدا نفاثا تختص به مرشّحتها.
كما أن "كارن باور" قد جمعت بتدرجها في مختلف المسؤوليات في الدولة و الحزب، و إدارتها الناجحة لأكثر من معركة انتخابية، رصيدا من المصداقية و السمات الموضوعية، التي تجعل أهليتها للرئاسة عصيّة على كل تشكيك.
و لم تكتفي المستشارة بالإختيار السديد، و إنما انطلقت منذ مدة في إعداد "جنرالتها" و مدها بكل الأسلحة الضرورية، لإتمام الإنقلاب الناعم.
فعلى إثر الاستقالة المبكرة و الملفوفة بالغموض ليدها اليمنى و رجلها الوفي "تاوبر"، استقدمت "أ.ك.ك" إلى عاصمة الحكم، و عينتها ك"سكريتير-جنرال" للحزب، و هو المنصب الذي يسميه الألمان، بزانة القفز العالي، أو غرفة الإنتظار التي يمرّ بها أغلب المسؤولين الكبار، ف"ميركل" نفسها قد تقلدته سنتين كتمهيد لترأس الحزب، و ما ذاك الا لما يصحبه من صلوحيات واسعة، بموجب الفقرة 37 للوائح القوانين الداخلية.
فكونه الواجهة الإعلامية للحزب، يعطيه صيتا و اشعاعا كبيرا بين الجماهير، و إشرافه على تنظيم و قيادة كل الحملات الانتخابية، جهوية كانت أو محلية أو فرعية، يجعله مخوّلا لحضور كل اجتماعات الحزب و مؤتمراته، مما يكسبه التصاقا بالقواعد و شبكة علاقات لا يملكها غيره، تمتد لتشمل مختلف المكاتب و الجهات، و كل مستويات صنع القرار في الحزب، زد عليه إشرافه على التقارير المالية و مشاريع الميزانيات، الذي يجعل شرايين الحزب و مضخة الروح فيه، تلتفّ بين أصابعه.
كل ذلك لم يكن كافيا، فالدهاء و إتقان التطريز السياسي ظهر أكثر وضوحا، بإعلان ميركل النية في البقاء على رأس الحكومة رغم التخلي عن قيادة الحزب، بما يخالف العرف المعمول به و حتى قناعاتها و تصريحاتها السابقة، بضرورة اجتماع المسؤوليتين في قبضة واحدة. الا انها بذلك كانت تفرض مدى قابلية الانسجام معها، كشرط آخرا و صفة ضرورية في الرئيس المقبل. و ذاك معيار قد لا يؤثر في الأغلبية المصطفّة، و لكنه يلعب دورا وازنا في توجيه الأقلية المحايدة. ينضاف إليه في نفس الإطار، وقوف جناح "المسيحيين الاجتماعيين" وراء "أ.ك.ك"، و الذي يمثل كحلقة الوصل مع شركاء التوافق، من الاشتراكيين الديموقراطيين، ضمانة لسلاسة عمل الإئتلاف الحكومي.
هكذا هندست المرأة الحديدية الأزمة و أدارت معركتها بحرفية عالية و خديعة رصينة، دون أن تمس من قواعد التنافس الشريف، فنجحت في ترويض الماكينة الأصولية و التنظيم العميق في الحزب، رغم ما واتى توجهه من الرياح الوطنية و الإقليمية و الدولية، مكرسة شعار المؤتمر:
"وجهة واحدة و قيادة مشتركة"
فلم يفتها تقديم بعض التنازلات و التعديلات الطفيفة، توقّيا لشرّ التشظي و الإنقسام، فأعادت القيادة للكنيسة الكاثوليكية، التي ما قد فتئت تعبر عن امتعاضها من سيطرة البروتستانت على مقاليد الحكم، كما أن "كارن باور" انطلقت في مباشرة رتق الشرخ و تطييب الجراح. إذ عينت لأول مرة رئيس المنظمة الشبابية الأكبر في أوروبا و المعروف برجل المحافظين الصاعد ،"تزيمياك" ك"سكريتير-جنرال"، لتخطب بذلك ودّ الشباب، كأشدّ القطاعات نقدا في الحزب، و تضمن مساندة أنشط محركاته العضلية، و أكبر مكاتب المقاطعات في ولاية شمال الراين، فهي تعي جيدا أن الامتحان المقبل، الذي ستكرم فيه رئاستها او تتزعزع و تهان، سيكون في انتخابات البرلمان الأوروبي في ماي المقبل.
و هكذا ابتدأ مؤتمر الوداع بالصلاة و اختتم بالنشيد الوطني، في صورة اعتبارية تلخص قناعات آخر أحزاب الشعب المتديّنة في القارة العجوز، بأنهم لا ينطلقون من الدين الا كمحرك بناء وطني، و قد كتبت بين دفتي هذا الحدث التاريخي، دروس بليغة، في كيفية ممارسة حق حرية الإختلاف مع الالتزام بواجب وحدة الصف.
Comments
0 de 0 commentaires pour l'article 172749