''دبلوماسية'' الغنوشي.. وحُــلْــــم قـرطـــــــــاج

بقلم: شكري بن عيسى (*)
لا شك اليوم أن زيارات الغنوشي في نطاق دعوات رسمية خارجية تكثّفت، ونشاطاته "الدبلوماسية" الدولية تعددت، وآخرها المرتبطة بالوساطة في الشأن الليبي، وأصبحت تثير لغطا قويا في الساحة السياسية والاعلامية الداخلية؛ والسؤال الجوهري في الصدد: هل أن ما يقوم به زعيم النهضة يتطابق مع السيادة والمصلحة الوطنية؟ وهل هو بالأساس مشروع ويتطابق مع القانون؟ وهل يوجد فراغ في الخارجية التونسية؟ وهل توجد غايات وتوظيفات اخرى لهذه "الدبلوماسية" لا ترتبط بسياسة ومبادىء الدولة الخارجية؟
النشاط "الدبلوماسي" الخارجي لرئيس حزب "النهضة" أصبح في عين الاهتمام الوطني والخارجي ويثير استفهامات عميقة منذ استقبال الرئيس الجزائري بوتفليقة له في شهر جانفي المنقضي في اطار تشريفات وبروتوكولات رسمية، واستقبال الرئيس التركي أردوغان له في فيفري الجاري، ومع تزايد الدعوات الرسمية من لجنة الشؤون الخارجية بالبرلمان الفرنسي في جوان 2016 الى لجنة الشؤون الخارجية بالبرلمان الايطالي في اكتوبر 2016 الى مشاركته الشهر المنقضي في أشغال منتدى "دافوس"..، في الوقت الذي يختص فيه رئيس الجمهورية بتمثيل الدولة، وضبط السياسة العامة الخارجية (بعد استشارة رئيس الحكومة)، حسب الدستور التونسي في فصله 77.
فراغ السياسة الخارجية
ما يطرح اشكال تداخل الادوار والوظائف في الصدد، والسبسي في تصريح لقناة "نسمة" تم بثه مساء الأحد 17 فيفري الجاري أكد انه "لم يكلف رئيس حركة النهضة بأي دور دبلوماسي" في اطار مبادرته لحل الازمة الليبية، ولكن يبدو أن رئيس الدبلوماسية برغم وجود حساسية في الخصوص وبعض سوء التفاهم الحاصل من حين لآخر لا توجد لديه عموما اشكالية في هذا الامر، ويقبل تلقائيا (وفي بعض احيان مكرها) بتدخل الغنوشي في نطاق "التوافق" الحاصل بين "الشيخين" ولا يرى فيه "تشويشا" على "الدبلوماسية الرسمية" في الاغلب، خاصة وانه يتم اعلام الرئاسة بصفة الية وفي الابان في أغلب الحالات بكل تحرك خارجي من شريك السبسي، والتنسيق حاصل في الحد الادنى المستوجب ولو ان "الدخلات" و"الخرجات" للقصر من الشريك السياسي ارتفعت وزادت عن الحد حسب التقاليد المعهودة.

ولكن في المقابل (هذا النشاط "الدبلوماسي") يثير اشكالا عميقا بالاساس في خصوص وجود فراغ في السياسة الخارجية وضعف في مؤسسات الدولة في هذا المجال، سمح للغنوشي بـ "التسلل" عبره وممارسة دورا اعتبره الكثيرون "دبلوماسية موازية" في حين اعتبره هو "دبلوماسية شعبية"، والامر يطرح بقوة اذ رئيس الجمهورية لم يخصص ما يكفي من الاهتمام وايضا الجهد في نطاق صلاحياته خاصة للازمة الليبية، كما أن الخارجية سواء داخل القصر أو في الوزارة في الحكومة لم تخصص كتابة دولة هنا او هناك للمتابعة الدقيقة لهذه القضية المصيرية، كما انه في نطاق الاختصاص الرئاسي في مجال "الامن القومي" لم يتم تخصيص جهاز متابعة استعلاماتي بحجم وادوات معتبر لهذا الموضوع الحيوي والوجودي لأمن تونس متعدد الابعاد، وتونس فرطت الحقيقة منذ وقت طويل في دورها المحوري لقيادة تفاوض شامل على ارضها لحل الازمة الليبية، التي دخلت على خطها وتحملت ادارة التفاوض بشأنها المغرب وبعدها الجزائر.
نجاعة محدودة.. خطر المحاور
الثابت أن الغنوشي يمتلك رأسمال علائقي هام ورصيد ثقة دولي معتبر، يستمده من شخصه ولكن أيضا من مركز حزبه في الحكم وبالارتباط بموقع تونس رائدة الربيع العربي وثقل تونس الاقليمي والتاريخي بوجه عام، ما جعله محل "حفاوة" دبلوماسية عالية واهتمام من القوى الدولية للوقوف على حقيقة الوضع الامني والسياسي والاقتصادي للبلاد، والمؤكد أنه يطمح ويستهدف لعب دور مفيد للبلاد على الصعيد السياسي والاقتصادي والامني ايضا، ولكن الاشكال الاساس حول نجاعة مناشطه اذ الدبلوماسية تتطلب براعات عالية وتُقيّم بنتائجها، والاغلب أن الغنوشي لم يحقق نتائج ذات اعتبار في الصدد، بالأخص في مستوى القضايا الجوهرية التي اهملها الى حد لانها صعبة التحقيق ولا تجلب الاضواء المبهرة: استرجاع الاموال المنهوبة في عهد المخلوع وجلب مجرمي فترة الاستبداد للمحاكمة وتحريك اسواق خارجية للتصدير وخلق اسواق عمالة لتشغيل التونسيين في الخارج وجلب استثمارات مباشرة خارجية وسياح او تحويل الديون الكريهة المثقلة في عهد الدكتاتورية الى استثمارات.
والواقع الاقتصادي المتدهور يبرز بجلاء غياب النتائج، وحتى المعونات المباشرة التي تلقتها تونس في الصدد في عهد الترويكا او ما بعدها من اصدقاء "الشيخ" قطر او تركيا أساسا فقد ادخلتنا على خط المحاور وضربت في العمق مبدأ "الحياد الايجابي" احد ابرز مبادئنا الخارجية، والتجاذب الذي خلقته هذه المساعدات على المستوى الداخلي الذي وصل حد التناحر السياسي والاجتماعي كانت نتائجه اكثر سلبية من مكتسباته، ويضرب في العمق مبدأ السيادة واستقلال القرار الوطني المبادىء الكبرى التي نادت بها الثورة، والانخراط في المحاور بصفة عامة بقدر ما يمس بالسيادة والقرار الوطنيين، ويضر بالمصلحة العليا والبعيدة ويضرب الوحدة الوطنية، فانه يقوّض الديمقراطية ونزاهة التنافس السياسي ويسمم الحياة السياسية، ويخلق بذلك بنية عميقة للتبعية الدائمة للآخر والتفريط في الثوابت.
أما في الساحة الليبية فالتعقيدات هنالك والتطاحن الدولي والاقليمي وتضارب المصالح وهيمنة رهانات النفط والسلاح والتهريب والارهاب والمحاور السياسية الدولية أكبر بكثير من تدخل الغنوشي وتونس بصفة عامة، خاصة بعد التفريط في الفرصة المواتية قبل تعمق النزاع المسلح واستفحال القتال والتناحر الدموي العميق صعب التدارك، وأي تسوية اليوم (ان حصلت) على هشاشة مرتكزاتها ستعترضها جبال من المشاكل لتنفيذها وتنزيلها، والساحة العراقية ابرز دليل. ويبدو أن تصريحات الغنوشي ودخوله في التفاصيل للاعلام (وفي حواره لموقع "ميدل إيست آي" و"وكالة الأناضول" قبل اسابيع بأنه هو مصدر المبادرة التونسية) وتصريحات رفيق عبد السلام الاستعراضية في الصدد خلقت ردود فعل غير مواتية بالمرة لسياق التفاوض سواء في الاعلام أو الاطراف المشرفة على "المبادرة" او القوى الليبية المعنية، وحتى بعض الاطراف الاسلامية الليبية وقفت على استثمار قائد النهضة لعناوين "التوافق" للترويج لنفسه والدعاية لشخصه اكثر من البحث عن حلول حقيقية لليبيا، أما تصريح حفتر: "أنا بحترم الجماعات الإرهابية أكتر من الإخوان لأنهم واضحين" بعد رفضه لقاء السرّاج رئيس المجلس الرئاسي فيبرز اتجاه الاوضاع شديد التعقيد.
"دبلوماسية" خارج الضوابط
واذا كانت الدبلوماسية بوجه عام هي الأدوات التي تستعملها الدولة لتنزيل وتنفيذ سياستها الخارجية، فانها يستوجب أن تكون مستقرة موحدة متناسقة ومتناغمة وبالاساس مهنية مستجيبة لمعايير مضبوطة كما يستوجب ان تكون خاضعة للمساءلة السياسية والقضائية عند الاقتضاء، والانحرافات فيما يخص "الدبلوماسية الشعبية" بوجه عام محتملة في كل وقت، والخروج على المعايير منتظر في أي لحظة لهذه "الدبلوماسية" ، كما انها عادة ما تخرج عن مقتضيات الرقابة في خصوص تلاؤمها مع الدستور والقوانين والاعراف والتقاليد الدبلوماسية وهذا ما يجعلها قد تخضع للمصالح الحزبية وحتى الشخصية ما دامت خارج دائرة المساءلة.
والواضح أن الغنوشي شيئا فشيئا بصدد التغوّل على الدولة ومؤسساتها، بما فيها الرئاسة وحتى داخل حزبه بما يحققه من مكاسب شخصية خاصة السياسية من هكذا نشاط "دبلوماسي موازي"، وما هو شبه مؤكد أن الغنوشي لا يقدم تقارير مفصلة عن نشاطه "الدبلوماسي" لمجلس شورى حزبه، كما لا يقدم التفاصيل الكاملة للمكتب التنفيذي لحركته وعادة ما يكتفي باصطحاب مستشارين من غير الجهاز التنفيذي زيتون ورفيق عبد السلام (أمناء سره)، وهو ما جعل مجال الخارجية صندوقا اسود يوظفه "الشيخ" لمزيد ترسيخ نفوذه في اطار خارج كل رقابة، وهو اليوم يسوّق نفسه خارجيا انه الضمانة الكبرى (والوحيدة في بعض الاحيان) للاستقرار الوطني والانتقال السياسي في تونس.
حلم الرئاسة
وهذا لا ينفي مساهمته في معالجة صورة النهضة خارجيا، خاصة بعد تعالي حركة المعاداة للاسلام السياسي ومشتقات الاخوان (اثر انقلاب السيسي في مصر) التي تقودها وتمولها بصفة معلنة الامارات، وحتى ان تَنزَّل في خانة المصلحة الحزبية فهو يصب في جزء في خانة المصلحة الوطنية بتسويق صورة ايجابية عن البلد، ولكن اليوم "الدبلوماسية" صارت بفائض غير طبيعي، ما يضخّم في شخصية رئيس الحزب الاول (في البرلمان)، ويجعله يحلم (شرعيا) بالوصول الى قرطاج.
قرطاج التي يعتبر نفسه (في مخياله العميق) الأولى بها، خاصة وان "توافقه" مع السبسي هو الذي يصنع المشهد السياسي الحالي، قرطاج التي قهره منها وحزبه الرئيس بورقيبة وبعده المخلوع بن علي ونكلوا بهم، قرطاج التي يعتبر أن الوصول اليها هو تتويج لمسار طويل من النضال السياسي، قرطاج التي يعتبر الاقامة بها رد اعتبار لنضالات اجيال، قصر قرطاج الذي كان في كل مرة يزوره يأخذه سحره وعظمته وأبّهته، ويخرج بحلم العودة اليه ساكنا تطول اقامته فيه لسنوات وليس زائرا عابرا لساعة أو تقل، القصر الذي يعتبر الاقامة فيه لخمس سنوات (قد تتجدد) بعمامة "الشيخ" سيحمل من الدلالات والرمزية ما سيتجاوز التاريخ الاني لتونس، وسيخلد وجود المرجعية الاسلامية السياسية في نطاق التنازع العميق بين المرجعيات الكبرى الايديولوجية والثقافية والسياسية "الوافدة" و"الاصيلة".
الحلم يبدو كبيرا وهيمنة "الشيخ" على مفاصل النهضة اليوم، والسلطات الواسعة التي فرضها وتحوّز بها في المؤتمر العاشر وما بعده، تعبّد امامه الطريق داخل حزبه خاصة وأنّ ترشّح رئيس الحزب للمناصب العليا في الدولة يتم دون تزكية مجلس الشورى حسب النظام الاساسي (الفصل 32)، وفي الوقت الذي انتهى فيه حق الغنوشي الترشح لدورة ثالثة بعد دورتين متتاليتين (الفصل 31)، وما يعبّر عن هذا الحلم هو المستشار السياسي للغنوشي لطفي زيتون في تصريح ذا دلالات لاذاعة "الديوان"، الذي عادة ما يعبّر بالصوت العالي عن المواقف الغير معلنة للغنوشي ويفتح "الزوايا المغلقة"، اذ بعد دفاعه في مداخلات اعلامية سابقة عن تحوير دستوري يمنح صلاحيات اضافية للرئيس (نظام رئاسي صريح)، خلال حضوره على الاذاعة المذكورة صرح انه "مع حق أي شخص في ممارسة حقوق المواطنة التي كفلها الدستور".
حق الترشح.. مزالق "الاستهداف"
ولو أن هذا التصريح جاء في رد على "نصيحة" قدمها القيادي في النهضة عبد اللطيف المكي لزعيم النهضة بعدم الترشح للرئاسة، ولو انه اشار الى ان "مؤسسات الحركة لم تناقش بعد مسألة ترشيح زعيمها راشد الغنوشي للانتخابات الرئاسية المقبلة"، فان سطوة الغنوشي داخل مؤسسات الحركة وحسب التوازنات الحالية القائمة لن تمنع على الاغلب رغبته ان عبر عنها في الترشح للرئاسة، ولكن ما يستغرب بقوة هو عدم اشارة "المستشار السياسي" (المفترض المامه بالتفاصيل) الى القواعد الاساسية التي تحكم محور "العلاقة بالدولة والمشاركة في الحكم"، التي تضبطها "اللائحة السياسية" المصادق عليها في المؤتمر العاشر.
هذه اللائحة المرجعية لئن أكدت ان "خيار المشاركة في الحكم هو الخيار الأمثل"، فانها ضبطت اسس "الحجم" في "معادلة دقيقة متوازنة" في الصدد: أن تكون بالنسبة للحركة "شراكة وازنة فاعلة وقاصدة فلا نُهمّش" في طرف أول وان "لا تؤدي الى الهيمنة أو التفرد فنُستهدف" في طرف ثاني للمعادلة، وهو ما يعني أن الحركة لا يمكن أن تتواجد في نفس الوقت بشكل فاعل في الحكومة وتشغل منصب الرئاسة، والا فانها ستسقط في "الهيمنة" الامر الذي سيعرضها لـ "الاستهداف"، في ظل محيط سياسي وطني مناوىء الى حد كبير لتغول النهضة.
شبح التطاحن السياسي.. خسائر "النهضة"
وهو ما سيقود الى ضرر مزدوج للنهضة كما للوطن، باستعادة التطاحن السياسي على اساس "النمط المجتمعي" وعلى اساس "الايديولوجيا" بشكل حاد، واثارة حملات العداوة والتحريض الحاد ضد النهضة التي قادها الاعلام في انتخابات 2011 و2014، وسيضر بالوحدة الوطنية الهشة أصلا الترشح ان تم في مناخ وطني واقليمي ودولي البلاد غير قادرة على تحمله، هذا فضلا على الاضرار المباشر لحركة النهضة في خسارة امكانية دعم (مباشر او غير مباشر) لاحد المقربين والاستفادة منه، اذ الغنوشي حسب استبيانات الراي برغم كل ما قام به واستثمره في "تحسين صورته" لا يزال من بين اكثر الشخصيات التي "لا يرغب التونسيين في ان تلعب دورا سياسيا مستقبليا" حتى بالنسبة لاغلبية القواعد الانتخابية للنهضة. فحسب البارومتر السياسي لشهر فيفري 2017 حسب مؤسسة "سيغما" يصنّف من بين الاربع مراتب الاخيرة للشخصيات السياسية (مع حافظ السبسي وسليم الرياحي والهاشمي الحامدي) في رصيد الثقة على أكثر من 30 شخصية في الوقت الذي يحتل فيه مورو المرتبة الاولى، ومعدل نسبة الرفض للغنوشي يفوق 70% حسب "سيغما"، المعطى الذي يؤكده "المعهد الجمهوري الدولي" في استبيان قام به عن طريق مؤسسة "إلكا" في ديسمبر 2016 تفوق فيه نسبة الرافضين (من نسبة المصرحين) للغنوشي الـ75%.
والنهضة بذلك ستخسر حسب توجهات الراي العام الرئاسة وستتضرر صورتها وستفقد عديد النقاط في التشريعية بحكم الشيطنة التي ستتعمق، وستضر ابرز الشخصيات القريبة منها من النجاح في الرئاسية، ولا نظن ان تحسنا عظيما في الارقام سيحصل من هنا الى موعد الانتخابات القادمة (اللهم تحدث "معجزة" أكبر من أن ندرك حقائقها)، كما انها ستقضي على امكانية تهيئة الراي لتقديم احد قياداتها في انتخابات 2024 أو 2029. وحتى رفيق الغنوشي مورو فقد سخر من امر ترشح رفيق دربه ان حصل، واعتبر في برنامج "لمن يجرؤ" ان ترشحه سيجعله بمثابة "القطوس" مؤكدا ان "حركة النهضة لم تنضج بعد" مستدركا انه يمكنها "تقديم مرشح للرئاسة بعد عشر سنوات"، اما في برنامج "لكل الناس" فاكد انه "سيناهض" ترشحه للرئاسة، والحقيقة ان مورو برغم تصدره استبيان الراي المذكور في خصوص "الثقة"، الا ان اخر استبيان للراي اجرته "سيغما" حول الرئاسية في 2017 لم يمنحه سوى المرتبة العاشرة بأقل من 100 ألف صوت، في الوقت الذي لم يظهر اسم الغنوشي في قائمة العشر الأوائل.
حملة "العلاقات العامة"
رئيس النهضة قد يكون في اتفاقه "اللغز" مع السبسي في "البريستول" في 2013، أو بالاحرى "توافقه" تضمن تقدم السبسي في 2014 للرئاسة مع ضمان عدم تقديم "النهضة" لمرشح وعدم الاعتراض عليه، وفي 2019 تقدم الغنوشي لقرطاج مع ضمان عدم اعتراض "النداء" عليه وربما عدم تقديم او دعم مرشح اخر؛ الحملة الاتصالية والعلاقات العامة لـ "الشيخ" منذ سنتين أو أكثر أصبحت جلية للعيان: تهذيب للحية (في جمع بين صورة اسلامية ونمطية) وقطع مع صورة التوتر، وتشغيل مستمر للصفحة الرسمية على شبكة التواصل الاجتماعي "فايسبوك"، عادة ما تعتمد الاشهار عبر تقنية الـ "sponsorisation" ما رفع بشكل كبير عدد متابعيها ومشتركيها، مع اعتماد مصوّر صحفي قار لنقل صور مكثفة لنشاطه العام المتعدد في المواضيع والمجالات والاماكن.
نشاط أصبح محل متابعة واهتمام عالي من الاعلام والمراقبين، وأصبح بذلك الرجل شخصية اعلامية بامتياز تجلب الكاميروات في كل حركة، الى حد أنه اختزل تقريبا نشاط حركته في شخصه، وحتى الصفحة الرسمية لحزبه فاصبحت في أكثر من 50% مركزة على شخصه، واعتماده عديد قامات سياسية "قصيرة" وكثير من النكرات (للراي العام) في المكتب التنفيذي والمكتب السياسي، بعد دفعه لابعاد القيادات والرموز التاريخية للحركة عن السلطة التنفيذية للقرار، جعله العنصر الابرز والمستأثر بأكثر الاضواء، وفضلا عن مداخلاته السياسية-الفكرية في بعض المنتديات والمراكز البحثية والاكاديمية الدولية -التي ينسق جزء كبير منها "مركز الاسلام والديمقراطية" للمصمودي- فقد ركز على الاتصال بالمنظمات الوطنية، بالاساس الاتحاد العام التونسي للشغل الذي اصبح يلتقي امينه العام بصفة تقريبا شهرية واتحاد الاعراف بدرجة أقل، ولكن بعلاقة فيها "خصوصية".
تحرك في كل الاتجاهات.. وفشل عالي الاحتمال
دعم الزعيم التاريخي للنهضة للمصالحة دون ملاحقات قضائية لرموز النظام السابق وايضا دعمه لمشروع قانون المصالحة الاقتصادية للتغاضي عن التتبع الجزائي لرموز الفساد، وايضا لقاءاته المباشرة مع عديد هذه "الرموز" ومقاربته للعدالة الانتقالية بمنطق "حمام بن سدرين" الذي يختزلها في تنظيف صورة المجرمين وايضا بمنطق "اعادة بناء سجن 9 افريل" الذي يختزل مسار هيئة الحقيقة والكرامة في مجرد التوثيق واحياء الذكرى، كل هذا يصب في خانة المغازلة الواضحة للمنظومة السابقة النافذة سياسيا الى حد اللحظة (خاصة بعد لقائه عبد الله القلال ومجموعته) من اجل كسب الدعم وفي الحد الادنى عدم العداوة والشيطنة، والتركيز بات واضحا لاستمالة أصحاب المال والاعمال المحركين للساحة السياسية.
السؤال الاساس في المحصلة هو هل ان الغنوشي قادر على النجاح وتحقيق الحلم من جهة؟ وهل ان الساحة الوطنية تتحمل هكذا ترشح من جهة اخرى؟ الثابت ان الشريحة من المنتخبين التي يستهدفها الرمز الاول للنهضة غير واسعة فضلا عن انه يشترك فيها مع عدة مرشحين ذوي قامات مديدة على راسهم المرزوقي والجبالي، ومن ناحية ثانية "الشيخ" لم يحدث اليوم بعد اكثر من ست سنوات من عودته للنشاط السياسي في تونس الاختراق الواسع ويستعيد ثقة التونسيين، ولا يزال رصيده الانتخابي منخفضا وهو لا يتميز بخصال تنافسية حالية ولا مستقبلية في الخصوص، وفشله اقرب بكثير لنجاح يظل مستبعدا في الظفر بقرطاج وحتى المرور للدور الثاني أصلا، وزيادة عن ذلك فان ترشحه سيعمق الشرخ داخل النهضة ويربكها وسيزيد في الاضرار بصورتها خاصة وان خيار "التخصص الوظيفي" خسرت بعده مباشرة الحركة اكثر من 200 الف ناخب محتمل واهتراء القاعدة الانتخابية قد يتعمق مع النتائج المتواضعة جدا للحركة في الحكومة خاصة وان اخر استبيان اجرته "سيغما" مفتتح 2017 لا يمنحها في التشريعية سوى قرابة 608 الاف صوت فقط (بنقص يساوي قرابة 340 الف صوت)، والافدح هو الارباك الوطني في الاستقرار والوحدة الوطنية الهشة الذي سيحدثهم هكذا ترشح ان حصل!!
(*) قانوني وناشط حقوقي
Comments
5 de 5 commentaires pour l'article 138693