هل أصبح البوعزيزي بطلا أسطوريّا؟

بقلم عبد الرزاق قيراط - آخر ما كتب عن محمّد البوعزيزي جاء في صحيفة تايمز البريطانيّة حيث أعلنته شخصيّة العام 2011. و حين نقرأ ما يكتب عن الربيع العربيّ سنجد أنّ ذكر البائع المتجوّل محمّد البوعزيزي من سيدي بوزيد متواتر بكثرة في الصحف ومواقع الانترنت و منتدياتها. و اللافت لكلّ من يُدخل الاسم في أشهر محرّكات البحث "جوجل" هو حجم النتائج الكبير الذي يزوّدك به ، ففي آخر عمليّة بحث قمنا بها، تلقّينا ما قدره مليون و 660 ألف نتيجة لما قيل و كُتب عنه، ما يعطينا فكرة عن أهمّ الملامح و الأفعال التي أسندت لهذه الشخصيّة، و يمكن تصنيفها إلى نوعين، الأوّل يَعتبر البوعزيزي بطلا أو شهيدا أو رمزا. و الثاني يشكّك في ذلك أو ينفيه.
و عموم ما يكتب عن الرجل منذ إحراقه لنفسه يلخّص بوضوح ما أصبح يثيره اسم البوعزيزي من جدل حول رمزيّته الثوريّة و لكنّ السؤال الذي أصبح يطرح بإلحاح شديد هو التالي: ما هي حقيقة محمّد البوعزيزي؟
و عموم ما يكتب عن الرجل منذ إحراقه لنفسه يلخّص بوضوح ما أصبح يثيره اسم البوعزيزي من جدل حول رمزيّته الثوريّة و لكنّ السؤال الذي أصبح يطرح بإلحاح شديد هو التالي: ما هي حقيقة محمّد البوعزيزي؟
و للإجابة عنه، سنقول إجمالا إنّ حقيقة البوعزيزي أنّه "ملأ الدنيا و شغل الناس" كما قيل عن المتنبّي.
فحين ثار الشعب التونسيّ على الدكتاتور بن علي كان اسم محمّد البوعزيزي مرادفا للشرارة التي أشعلت نار الغضب، و عندما انتشر الحريق ليطال الوطن العربيّ الكبير اتـّسعت دلالة الاسم ليتجاوز المدلول البسيط من بائع متجوّل يدفع عربته أمامه و يتحدّى أعوان التراتيب البلديّة إلى ثائر جوّال عابر للبلدان يدفع العرب ليتحدّوا جبروت الحكّام و يطالبوا بإسقاط أنظمة الفساد و القمع.
لذلك حضر اسم البوعزيزي الرمز منذ بداية الربيع العربيّ في أكثر ما كتب من مقالات و تحاليل بلغتنا و بغيرها و أغلب ما قيل و بثّ من تحاليل على أمواج الإذاعات و التلفزيونات العربيّة و الأجنبيّة ليصير ذكره على كلّ لسان، و في كلّ مكان. لا نرى شعلته تخبو و لا تتحوّل ناره إلى رماد ما دامت الثورة العربيّة ماضية في مسارها الطويل.

فادية حمدي
ولكنّ ذلك الاسم الذي بلغ ما بلغ من المراتب الراقية في أذهان الكثير ممّن تعاطف معه، ظهر يوم محاكمة فادية حمدي بشكل مغاير تماما إلى حدّ الإحساس بأنّ المدلول الأوّل لم يعد قائما لأنّه تعرّض لهزّة عنيفة مع صدور الحكم ببراءة المتّهمة من جريمة الاعتداء بالصفع و الإهانة، أو هكذا اعتقد بعض المتسرّعين في اعتقادهم أنّ صورة البوعزيزي "بطلا" لم تكن على أساس صحيح. و قد سال حبر غزير بعد تلك المحاكمة، و خرج المهتمّون بذلك الشأن يبحثون عن حقيقة ما جرى بين البوعزيزي و فادية حمدي فتعدّدت العناوين و تناقضت الروايات و لكنّ البطل الوحيد في كلّ ذلك ظلّ هو نفسه محمّد البوعزيزي ما دام يملأ الدنيا و يشغل الناس ثانية و تحتلّ أخباره كلّ وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة و المرئيّة.
فما لا يدركه الجمهور المتعطّش لأخبار الناس أنّ البوعزيزي دخل التاريخ فعلا بما حدث بعد موته لأنّه حرّك الجماهير العربيّة لتعلن غضبها على الطغيان الذي ناءت بحمله جيلا بعد جيل، و لذلك فإنّ البحث عن حقيقة ذلك الرجل قبل موته لن يكون مجديا و لن يخرجه من الموقع الذي احتلّه في مسار الثورة العربيّة.
لقد علّمنا التاريخ أنّ ألقاب البطولة لا تسند بالضرورة لأشخاص نعرف كلّ التفاصيل الحقيقيّة لحياتهم وهو ما يثير شهيّة الكتّاب و خيالاتهم ليؤلّفوا مئات الروايات والكتب والمصنّفات ويحوّلوا أناسا عاديّين إلى أساطير عجيبة انطلاقا من تأويلات و مبالغات و حقائق و أكاذيب.
و علّمنا التاريخ أيضا أنّ الأبطال لا يصنعون أنفسهم بقدر ما يصنعهم الناس ممّن يكتبون أو لا يكتبون و هذا ما يفسّر أنّ البطل أو الرمز الذي يدخل في الذاكرة الجماعيّة لا يرقى حقّا إلى تلك المرتبة إلاّ بعد موته. فنادرا جدّا أن تجدهم من الأحياء لأنّ شحّ الإنسان عموما يمنعه من أن يمنح ذلك اللقب لمن كان على قيد الحياة، وإذا مُنح فغالبا ما يكون نفاقا لحاكم أو صاحب جاه ماديّ أو معنويّ.
و لعلّه من السابق لأوانه الجزم بما سيؤول إليه ذكر البوعزيزي في المستقبل البعيد، و لكنّنا نشعر شعورا قويّا أنّ بطولته الرمزيّة تتمثّل في الدور الذي لعبه لا باعتباره بشرا يختلف الناس حول حقيقته بل باعتباره حدثا قادحا أقحمه القدر في مسار الثورة التونسيّة من أجل أن تبلغ ذروتها، حتّى إذا اضطربت و تداخلت أحداثها و وصلت إلى مرحلة التأزّم أمكن لها أن تسير نحو الانفراج الذي يمثّل النهاية السليمة لكلّ مأزق كما يؤكّده المنطق الذي يحكم قانون الأزمات والحكايات. وليس التاريخ الإنساني إلاّ جملة من الحكايات والروايات المتلاحقة و ليس الأبطال الذين سُجّلت أسماؤهم في صفحات التاريخ إلاّ أحداثا تمثّل تلك المنعرجات المصيريّة للشعوب، وفي ذلك كلّ الفرق بين الأشخاص الذين يموتون والأبطال الذين يبقون أحياء بما فعلوه عن وعي أو عن غير وعي و بما أحدثوه من فعل فريد يخلّد ذكراهم فيملئوا الدنيا و يشغلوا الناس.
عبد الرزاق قيراط
Comments
17 de 17 commentaires pour l'article 43244