بورقيبة وعدالة وفعالية التعليم.. الفجوة السحيقة

شكري بن عيسى
منذ أسبوع ونحن نسمع في لوبانة مضغت وتلوكت وبزقت (حاشاكم) ثم بلعت.. وتقيأت (حاشاكم) وأرجعت إلى الأفواه للمضغ وتلاك من جديد.. وأكيد أنها ستستمر أسبوعا آخر في التلويك.. وأشهر وسنين حسب المناسبات السياسية.. وسوق المزايدات الأيديولوجية..
منذ أسبوع ونحن نسمع في لوبانة مضغت وتلوكت وبزقت (حاشاكم) ثم بلعت.. وتقيأت (حاشاكم) وأرجعت إلى الأفواه للمضغ وتلاك من جديد.. وأكيد أنها ستستمر أسبوعا آخر في التلويك.. وأشهر وسنين حسب المناسبات السياسية.. وسوق المزايدات الأيديولوجية..
بورقيبة هو اللي علّم الشعب .. وهو زادة اللي كبّر الشعب ..
هذه المقولة التي ثقبوا بها آذاننا.. ليس لأنها تضليلية فقط.. بل لأنهم يريدون أن يصبغوا عليها صفة القدسية.. والتاريخانية.. وحتى المعجزة .. وهم أصلا دعاة العقلانية.. والحداثية.. واللاقدسية..

أولا بورقيبة لم يكن هو من علّم الشعب.. والشعب كان فيه منذ الاحتلال آلمئات ان لم يكن آلاف النخب المتنوعة التي لا تقارن أصلا بوقتنا هذا.. ومن يطلع على الجرائد وعناوينها ومواضيعها وكتابها وعددها الضخم والحركات الادبية والثقافية (جماعة تحت السور،، الشابي والدوعاجي،،) والفنية ايضا (صليحة وعلي الرياحي،، ).. لا يمكن إلا أن ينحني إجلالا لمن سبقونا.. ويقف على حجم التدهور الذي نحن اليوم فيه..
المجلس القومي التأسيسي والحكومة الأولى بعد الاستقلال كانت تضم مئات الوجوه من الدرجة الاستثنائية.. في الثقافة والخبرة.. والشعب بكل فئاته كانت له إرادة وتصميم على تعليم الابناء ونشر العلم بعد غبن الاحتلال الفرنسي القذر الذي عمل على سحق الشعب ومقومات وجوده التعليمية التربوية.. (برغم ان اغلب مدارس المدن تركتها فرنسا).. والشعب في الواقع هو من كان في اغلب الحالات يبني المدارس.. قبل او بعد الاستقلال.. مساهمة بأمواله أو بجهده مباشرة.. والعملية كانت مشتركة بين الشعب ووزراء التربية في تلك الأوقات التي كانت قامات بعينها (الأمين الشابي، محمود المسعدي، أحمد بن صالح، أحمد نور الدين، محمد مزالي،،)..
وبورقيبة ايضا الذي لا يمكن إنكار مساهمته.. التي لم تكن بـ التقديس الحالي.. بل هو من انحرف في الحقيقة بجوهر هذه العملية نحو خلل فظيع.. وأحدث هوة ساحقة.. كانت من بين أكبر وجوه مجتمع العجز والخضوع والتبعية والتقهقر على اغلب الصعد والمستويات..
بورقيبة كرس تعليما اعرج.. في مستوى الجهات.. في مستوى الفئات.. وفي مستوى اللغة.. وفي مستوى المقومات الخصوصية لتونس.. وحتى في مستوى التوجه والخيارات..
في مستوى اللغة كان تعليما فرنكوفونيا صرفا وكانت العربية هامشية.. ان لم تكن مسحوقة.. ما كرس تبعية ثقافية واقتصادية مست من سيادة الوطن وخلخلت المقومات الوطنية..
في مستوى الجهات كان التعليم بسرعتين.. ولم نرى الجهات الداخلية حضيت بما حضيت به الجهات الساحلية ما تسبب في الخلل التنموي العميق الذي استمر إلى حد اللحظة.. وستظل استتبعاته الكارثية متواصلة إلى عشريات أخرى ان لم يكن لقرون.. كما همش كل أفراد الجهات المسحوقة..
وصار انتقاءيا هذا التعليم البورقيبي.. لفائدة الفئات المحضية والغنية والنافذة وخاصة من الذين يدورون في فلك الفرنكوفونية والفرنسيزونية والفرنكوفيلية..الذين كان لزاما أن يصلوا إلى أعلى المراتب ويشغلوا المناصب السياسية والادارية العليا.. ويهيمنوا على الاقتصاد والأعمال والثقافة.. والمجال الاكاديمي.. ويكونوا قيادات عليا في الجيش والشرطة والديوانية..
ولم يكن نصيب الفئات المسحوقة سوى تعليما إلى السادسة ابتدائي وفي أحسن الحالات الثانوي المهني.. وكان ضروريا أن يتعلموا حتى يكون منهم الحُجَّاب والكتبة وآلبوليسية والرقباء وفي الحد الأقصى المعلمين.. ليخدموا في المستوى القاعدي الضروري في الادارة.. ومن وصل إلى الإجازة أو فاق فلا يكاد يحصى وكان فعلا نادرا..
التعليم البورقيبي كانت آثاره في اغلبها مدمرة فلا خلق نهضة ولا تنمية ولا اقلاعا.. وكانت بلدانا اقل منا ثروات ورصيدا تاريخيا حققت معجزات.. والنمور الآسيوية لم تتطلب نهضتها سوى عشرية تزيد أو تنقص لتحقيق إقلاع اقتصادي.. والخيارات التكنولوجية التعليمية كانت المرتكز..
أما على المستوى السياسي الحقوقي والنقابي فلم يكرس سوى منطق العشائرية والعروشية والزابونية.. والاستجداء والتوسل والتسول.. في قطاعات واسعة.. واسقط الشعب في الخضوع للاستبداد في عمومه.. ولم يكن في نظامه التعليمي ما يخلق الحصانة ضد دكتاتورية الدولة وثقافة الاضطهاد والتعذيب والتصفيات والنفي.. وما يدفع نحو الحريات الفردية والجماعية.. ويفسح واسعا للنشاط النقابي.. ويؤسس لنظام قضائي عادل.. ويبني منظومة إعلامية حرة تحمل رسالة حضارية رائدة..
ولم يخلق لنا على المستوى الثقافي سوى العقم.. في اكثر القطاعات.. ولا نكاد نعثر على مبدعين إلا انفلاتا،ً ومن جهات بعيدة عن النظام التعليمي..
ولم يكن المستوى القيمي أحسن، فالشخصية التونسية باتت مُرْهَقَة وحتى مُخَرّبَة ولم تحمل قيما حضارية واضحة.. وكان الصراع بين الحداثة المسقطة والأصول المشوهة مصدرا للانفصال والاضطراب الذي قاد نحو العجز والشلل في غالب الحالات..
أما القضية الفلسطينية فتم استهداف مبادئها على يديه.. من خلال ادواره المباشرة في المواجهة أو غير المباشرة في المنظومة العربية.. ولم نكد نعثر في كتب تعليم بورقيبة موادا عن محنة شعب بأكمله سوى خارطة لا تحمل اسما..
ومن يتكلم اليوم عن الإدارة والجيش والشرطة والديوانية والبنوك يعلم حجم الخراب الذي تعاني منه هذه المؤسسات التي ساهم في إرسائها المحتل الفرنسي وترك فيها اغلب مساميره الصدئة التي استمرت في خدمة مصالحه ونهب ثروات البلد لفائدته.. واستمرار الاحتلال في أشكال جديدة.. وحتى الشركات العامة فليست أحسن حالا وأغلبها على حافة الإفلاس.. وتعاني عجزا هيكليا.. ومثلت نزيفا مستمرا لمال الشعب.. أما البنوك فالكل يعلم هيكلتها الفاسدة..
إدارة الفساد والرشوة.. إدارة المحسوبية وكل أشكال التمييز.. إدارة الاغتراب والاستلاب والموت البطيء للموظفين.. إدارة افتقاد القيم وفقر الأخلاق.. الذي يتسرب منها إلى المجتمع.. وكل أشكال العقم.. وقتل معالم الإبداع والابتكار.. دون نسيان عقلية البيروقراطية التدميرية.. و رزق البيليك التخريبية..
اما على المستوى الاقتصادي فالى اليوم غارقون في خياراته المضطربة من تعاضد مُسقط الى رأسمالية رسخت التبعية للغرب.. عبر منوال تنموي قائم على التداين وأيديولوجيا الاستهلاك والسلعنة..
رحم الله بورقيبة.. جازاه عما تركه من خير.. لا يمكن طمسه.. في الاحوال الشخصية وتنظيم النسل.. وغفر له في المقابل عما تركه من خراب لا يمكن إلا لجاحد إنكاره.. وسامح هذه النخب التي لا يمكن أن تفكر إلا بمنطق التمائمية و الصنمية و الأبوة و التأليه .. فهم في النهاية ضحايا ثقافة وتربية المجاهد الأكبر و الزعيم الأوحد و الرئيس الأبدي .. بعدما مات.. وتركهم ايتاما .. عجزوا عن نحت صنم من حجر يخلده ولكنهم يتوقون دوما إلى صنم معنوي عبثا يخلد رمزيته لتحقيق إشباعها المعنوي.. عبره.. وللبعض الآخر استثمارا سياسيا مربحا.. بعدما باعوه قبل ربع قرن وقبضوا الثمن نقدا.. وذهبا.. وتستمر التجارة.. ببورقيبة.. ميتا.. بصنميته.. بعدما راجت وازدهرت بشخصه حيا لحظات شيخوخته السياسية لما كان ميزان القوى انفصم لفائدة قائد الانقلاب الذي دعموه لعشرات السنين قبل أن يخلعه الشعب عشية 14 جانفي 2011!!
Comments
14 de 14 commentaires pour l'article 83101