المنعرج الاخير للثورة التونسية

بقلم حاتم الكسيبي
الحمد لله أن سير لبلدنا تونس ثورة لم تسقط فيها آلاف الأرواح فبعث الجزع والهلع في نفس المخلوع و فريقه، فاصطحب منهم زمرة و ترك بيننا نفر من حزبه متخفيا في رداء المواطنة و الاخوّة و سماحة التونسي و حسن أخلاقه. يومها فرحنا بفراره واحتفلنا و ظنّ بعضنا ان الخير العميم قادم على عجل و أنّ الحرية ستوزع بالمجان في الاكشاك و في المحطات، و أمام كل مسجد و ملعب و مقهى: هلمّوا أحفاد ابن خلدون وارتعوا في سماء التحرر والانعتاق فقد دحرتم الاستبداد والديكتاتورية و هيأتم لربيع عربي يصل مداه الغرب والشرق على السواء. كنا يومها نمشي كالديك نافشا ريشه رافعا رأسه يصيح بعزم وجدّ، و كنا نفخر بانتسابنا لهذا الوطن العزيز. ولما كان حلمنا الاستقرار والتقدم تهيأت الظروف للانتخابات وحسم امر الحكم في هذه الربوع، فاختار التونسيون من أرادو وانطلقت عجلة التغيير.
الحمد لله أن سير لبلدنا تونس ثورة لم تسقط فيها آلاف الأرواح فبعث الجزع والهلع في نفس المخلوع و فريقه، فاصطحب منهم زمرة و ترك بيننا نفر من حزبه متخفيا في رداء المواطنة و الاخوّة و سماحة التونسي و حسن أخلاقه. يومها فرحنا بفراره واحتفلنا و ظنّ بعضنا ان الخير العميم قادم على عجل و أنّ الحرية ستوزع بالمجان في الاكشاك و في المحطات، و أمام كل مسجد و ملعب و مقهى: هلمّوا أحفاد ابن خلدون وارتعوا في سماء التحرر والانعتاق فقد دحرتم الاستبداد والديكتاتورية و هيأتم لربيع عربي يصل مداه الغرب والشرق على السواء. كنا يومها نمشي كالديك نافشا ريشه رافعا رأسه يصيح بعزم وجدّ، و كنا نفخر بانتسابنا لهذا الوطن العزيز. ولما كان حلمنا الاستقرار والتقدم تهيأت الظروف للانتخابات وحسم امر الحكم في هذه الربوع، فاختار التونسيون من أرادو وانطلقت عجلة التغيير.

لم يرض ذلك الاقتراع الحر النزيه الشفاف المشهود له من قبل كل دول العالم بعض الاطراف، ولم تشتغل يومها يد التزوير و تغيير ارادة الشعب بعد ان قطعتها الثورة فقد اختفت في الجحور والكهوف و وراء القضبان تفكر في العودة والانتقام من الثورة والثائرين. و لعل بعض محاولات الظهور بمظهر التائب من الذنب و العبد الفرحان بموت سيده لم تنطل على المنتخبين فعالجوهم بالرفض و نهروهم من جديد عن العودة للسياسة و التردد على مواقع الحكم والقرار. و لقد رضي معظمهم بالاختفاء ثانية و العمل بعيدا عن الاضواء وتركوا مماليك اليسار يرهقون الثورة والثائرين بعديد القضايا الملفقة والجدل العقيم. كان ذلك المنعرج الثاني للثورة التونسية: تطبيق الشريعة ومسائل الحجاب و النقاب و افلام تافهة على غرار لا ربّي لا سيدي . غضبت الثورة فأرعدت وأزبدت و خرجت المظاهرات و زادت المهاترات الاعلامية واستدرج الحكام الجدد الى مستنقع الايديولوجيا حتى فاحت رائحة العناد و الاستعداء، فتفرقت اصوات الثورة و تقسمت الاحزاب وتكاثرت ثم فرخت الشقاق و التباغض و النفاق. و جاء منعرج الاضرابات والاعتصامات المنظمة والعشوائية ليضرب استقرار البلد من جديد فيرتبك الحاكم الجديد المتيم بالقيم والاخلاق و التحرر، فجندت الخلايا النائمة للمخلوع ومماليكهم اليسار النقابات والجمعيات المعروفة و المستحدثة لخوض حرب تشكيك في قدرات الحكم وتحمل المسؤولية فصارت شؤون الدولة حديث المقاهي والمنابر والمعاهد و المتاجر وادلى الجميع بدلوه و عبر عن رأيه بكل حرية. يومها سمعت الحكومة النصائح و سمعت السب والشتم والتشكيك، ولكنها أدركت أنّ هناك من يترصدها و يكيد لها المكائد فيعود من الشباك بعد ان أطرد من الباب.
ثم قدر الله انطلاق الاغتيالات بأياد وسخة متسترة بالجهاد و الدين فكان المنعرج الثالث، ولعله أخطر المنعرجات لا سيما و ان سكان الجحر والجبّ قد اتبعوا طريق يأجوج و مأجوج فأفسدوا في الارض و نفثوا السموم و هيأوا للانقلاب على الحكم. تلك فترة شهدت هزة في ارض الكنانة فارتدت على تونس وخرج الازلام و مماليكهم الى الشوارع يعلنون العصيان والفشل التام للمرحلة الانتقالية، فاستغرب المواطن عبثهم ونصحهم بالتوبة النصوح او العودة الى الجحور و الاقنان ان كانوا يرغبون في المواطنة الحقة فينسون الامتيازات والرّخص والرحلات و الرشاوي وغيرها من وسائل الاستعباد والاستبداد. رضوا ذلك اليوم بما قدم لهم واكتفوا بتحييد وزارات السيادة و لكنهم تناجوا على الانقضاض على السلطة مستأنسين بما حدث في مصر. حينها ادركت السلطة الانتقالية الخطر الداهم و علمت انها قد غفلت عن المتخفين من النظام البائد تحت عديد المسميات فطفقت ترتب بيت الجيش والامن وتنظم صفوفه ولكنها عبثا تحاول و يد الغدر والارهاب قد استقرت في أغلب المدن فوفرت العتاد والرجال والاموال لزرع الخوف وال هلع ومن ثم الانقضاض على السلطة من جديد. لقد تشابكت مصاح الارهاب الجهادي بالازلام المعزولة عن موقع القرار فبات التونسي حيرانا لا يفرق هؤلاء من أولئك وتقوقع في محيطه العملي وانصرف كليا عن السياسة و تبعاتها.
و جاء المنعرج الاخير للثورة بالدعوة لحوار جائر أعدته تلك الاطراف بعينها ورعتها أعين الفارين في الخارج، فكانت شروط الحوار مجحفة تفوق ظلما شروط الصلح بين المانيا و الحلفاء ابان انتهاء الحرب العالمية الثانية. طأطأ حكام الترويكا واجتمعوا فاختلفوا ثم اجتمعوا ثانية ليقرروا مآل أمرهم وقد أدركهم الموج و برزت بوادر الغرق، كانوا في وضع لا يحسدون عليه وقد ارهقهم القصف الاعلامي بصواريخ الاشاعة والافتراء وتقارير الخبراء التجمعيين الى النخاع، و فقدوا جزءا من البهرج، فقزّموا نضالات الامس بأخطاء ارتكبوها لمّا ارتضوا محاورة ازلام الحزب المنحل و من هبّ و دبّ حول فكرهم الاناني النفعي. وتدخلت أيادي الغرب الذي أذهلته ثورتنا وسببت له القلق فعملت استخباراته ليلا نهارا لتتدارك اخطائها و تستحوذ على صنع القرار الوطني، حينها رضي الخصوم الازلام والحاكم الانتقالي بعرض الوسيط الخارجي وانطلقت مسيرة الحوار الوطني لاستكمال المرحلة الانتقالية. ولعل هذا المنعرج الاخير منته لا محالة بانتخابات تمكن للقوى الثورية او الازلام بالرجوع الى السلطة، ويبقى الاختلاف حول طريقة اعداد و قواعد هذا الاقتراع الاشكال الآني، ففي سبيله تقام الندوات والمسيرات والمحاضرات فيرهق الحاكم و يحاسب حسابا عسيرا على عدم الوفاء بتعهداته بينما يتفرغ الازلام لجمع صفوفهم و ترتيب أحلافهم لخوض غمار الانتخاب بعد أن صرفوا النظر عن موديل الانقلاب المصري الي حين من الزمن و أعادوا هيكلة الوشاة و المرتزقة في كل شبر من البلاد. لكن الأمل يحدو اهل الثورة التي لم تكتمل وهم واثقون من فراسة المواطن التونسي وحسن اختياره وهو الذي علم الخبايا و استمع الى المظالم التي سلطت و عرف الارواح التي ازهقت قبل وبعد الثورة وتساءل بأي ذنب قتلت؟ ذلك المواطن المؤمن الذي لا يلدغ من جحر مرتين فيتبين المتربص بثورته من الساعي الى اتمامها والمضي بها قدما، و تبقى انجازات الثورة التونسية سدا منيعا امام دعوات العودة الى الوراء.
Comments
7 de 7 commentaires pour l'article 73992