الثورة الخفيفة .. الدولة العميقة (3) وضع اليد على تونس بقفازات يسارية

بقلم : هانيبال فرحات
كما بيّنا في المقالتين السابقتين فإن الدولة العميقة تنجح في تأمين مصالحها عبر مجموعة تحالفات مدروسة. يمكن أن يتمد هذا الأسلوب نحو الفضاء السياسي ببعده الإيديولوجي، فلدولة العميقة في تونس وصفتها السياسية الجاهزة لضمان استمراريتها. هذا الدور الذي يلعبه اليسار في كل مرة بمزيج عجيب من البراءة والانتهازية، حتى أن إعاقاته الفكرية نفسها تبدو وكأنها من هندسة الدولة العميقة لضمان لعبه لهذا الدور..لقد شاءت الثورة أن تكشف النقاب للحظة عن هذا اليسار الفريد من نوعه، فقد تبعثر المشهد السياسي بحيث غيّر الجميع من أماكنهم من المعارضة للسلطة أو بالعكس فيما عدا اليسار الذي ظل في مكانه ثابتا في موقع المعارضة، كما ظل ثابتا في موقع الذراع الدعائية الطويلة منذ 1987 لذلك فلا غرابة أن تستعمله الدولة العميقة كقفازات ريثما تعود للحكم.
كما بيّنا في المقالتين السابقتين فإن الدولة العميقة تنجح في تأمين مصالحها عبر مجموعة تحالفات مدروسة. يمكن أن يتمد هذا الأسلوب نحو الفضاء السياسي ببعده الإيديولوجي، فلدولة العميقة في تونس وصفتها السياسية الجاهزة لضمان استمراريتها. هذا الدور الذي يلعبه اليسار في كل مرة بمزيج عجيب من البراءة والانتهازية، حتى أن إعاقاته الفكرية نفسها تبدو وكأنها من هندسة الدولة العميقة لضمان لعبه لهذا الدور..لقد شاءت الثورة أن تكشف النقاب للحظة عن هذا اليسار الفريد من نوعه، فقد تبعثر المشهد السياسي بحيث غيّر الجميع من أماكنهم من المعارضة للسلطة أو بالعكس فيما عدا اليسار الذي ظل في مكانه ثابتا في موقع المعارضة، كما ظل ثابتا في موقع الذراع الدعائية الطويلة منذ 1987 لذلك فلا غرابة أن تستعمله الدولة العميقة كقفازات ريثما تعود للحكم.
فلنبدأ من آخر فصول المسرحية. فمن ناحية المظهر يبدو اعتصام الرحيل الذي دعت له المعارضة في تونس حدثا شعبيا وعفويّا بعد اغتيال الشهيد محمد البراهمي، الا أن تمحيص ذلك سيجعل من هذه الشعبية وهذه العفوية مجرّد مساحيق تعلو وجهه. إنه كما سنبيّن في هذا المقال تعبير عميق عن تحالفات طالما اخترقت المنطق السياسي التونسي.
فالتحالف نفسه هو الذي عقدته الدولة في كل مرة وكأنه جاهز على الرفّ بداية من محو اليوسفيين بالتعاون مع النقابة، ثم بفرملة صعود الإسلاميين في الثمانينات (اليسار الميداني في الجامعة والشارع) قبل تجفيف منابعهم بالتعاون مع اليسار الادراي والإعلامي، ثم بمناسبة الثورة لاسقاط الإسلاميين من الحكم باستعمال اليسار السياسي مع تواصل توظيف الاعلام اليساري كأكثر الأسلحة فتكا.
يلاحظ أن عدة مناسبات فرضت التحالف بين اليسار والدولة العميقة. ما يجمع بينها هو الاهتزازات السوسيو-سياسية التي تتعرض لها الدولة والتي يشهد عليها صعود العنف للواجهة. أهم هذه المحطات هي النصف الثاني من الخمسينات، الفترة الواقعة بين 1978 و1992 وأخيرا ما بعد 2011. وفي كل مرة تصادمت الأيديولوجيات، لم يصعد على الحلبة سوى الإسلاميون واليساريون وفي كل مرة حصدت الدولة العميقة غنيمة السلطة.
صحيح أن اليساريين لم يخرجوا فارغي الأيدي، لقد نالوا المكافآت على أدوارهم ولكن معظم هذه المكافآت هي أن الدولة أدمجتهم في منظومتها أو قل هي هضمتهم أو رسكلتهم. في كل مرة كانت تذهب معظم الكعكة التي يتنازعون عليها في بطون الدولة العميقة. وتلك واحدة من سنن عالم السياسة في تونس.
لن نعود إلى التحالف بين الدولة التونسية الناشئة بعد الاستقلال والاتحاد العام التونسي للشغل، ثم زواج المتعة الذي جمع بينهما في سنوات الحكم حتى نهاية السبعينات، فكل هذا موجود في العرض التاريخي الذي قدمناه في المقال الثاني من سلسلة الثورة الخفيفة.. الدولة العميقة . ستكون نقطة انطلاقنا من الجامعة التونسية في بداية الثمانيات والتي كانت الرحم التي خرج منها معظم الفاعلين السياسيين اليوم فيما عدا قلة من الخارجين من كتاب تاريخ تونس للنصف الأول من القرن العشرين أو حقوقيو آخر زمن.

كانت الجامعة التونسية في الثمانينات مفترق الطريق الذي مرّت منه جميع التغيرات الاجتماعية والفكرية التي طرأت على المجتمع التونسي. فقد استوعبت الجميع من مختلف الطبقات ومختلف التيارات الفكرية، وكانت رمزيتها أنها تستقبلهم في فضاء واحد لذلك لم يكن هناك مفر من الصدام.
ان حادثة منوبة 1982 هي أفضل تجسيد للصراع اليساري-الإسلامي تحت رعاية الدولة. لقد تحوّلت مشاحنة كلامية بين أنصار التيار الإسلامي وأحد أعضاء الوطد تطورت الى معركة حامية الوطيس، بدت بدنية وكانت معركة أيديولوجية بامتياز. كانت هذه الحادثة علامة فارقة في تنامي التيار الإسلامي، اذ تعتبر أول حركة صدّ واضحة تعترضه.
أمام هذا المشهد الصدامي كان عدد من رجال البوليس يتفرّجون في المعركة مكتوفي الايدي أمام بوابة الجامعة، وقد أخذوا التعليمات بأن لا يتدخلوا، حتى اذا انتهت المعركة جمعوا في شاحناتهم الطلبة المتخاصمين وهم منهكون من الشجار. وتلك هي فلسفة الدولة العميقة في كل ما سيدور في الساحة السياسية مستقبلا.
انقلاب 1987 كان بمثابة حبة مسكنة لكل الغليان الاجتماعي، و قد كان هذا يبدو ضرورة نظرا لتهرّئ جهاز الدولة. وجد بن علي (رجل الدولة العميقة بامتياز) طبقة سياسية من إسلاميين ويساريين وقوميين ودستوريين مطواعة لتكديس الصلاحيات والسلطات حوله. فلما شارفت الثمانينات على نهايتها، نظر من حوله في المشهد السياسي فوجد أن اليساريين دخلوا في فصول سن اليأس بانهيار التجربة السوفياتية. أما الإسلاميون فكانوا على طرف النقيض يتحسّسون قوّتهم ويحلمون ببلوغ مقاليد السلطة عبر الصناديق أو عبر الانقلاب.
كان الجار الجزائري يعيش تجربة إسلامية دموية أقنعت بن علي بأنه لا يمكنه أن يظل في مكانه آمنا الا باستعمال الحلول الاجتثاثية مع الاسلاميين. الردع البوليسي لم يكن كافيا بمفرده وهو الذي لم يأل جهدا في استخدامه. لقد كان يحتاج الى دعاية مجتمعية واسعة تمكنه من دفع شعبي لمواصلة مهمته علاوة على دفع خارجي.
هنا استنجد بن علي بخصوم الأمس، كانت مرارة الهزيمة الأيديولوجية قد جعلت قسطا كبيرا من اليساريين ينخرطون في هذه اللعبة دون شروط. بعضهم هضمتهم معدة البيروقراطية بسهولة، وقد أخذوا بذلك جزائهم في منظومة الامتيازات الحزبية والنقابية. والبعض الآخر دخل المعترك بتحفيزات أنه يخوض معركة وجود فاصلة.
هكذا وفّر اليسار التونسي في هذا التحالف الغطاء الجوي لاستئصال الإسلاميين من تونس. وقد كانت سنوات المهجر هي الأخرى مسرحا لصراعات اليسار والاسلاميين في وسائل الاعلام الأجنبية واعتبر ذلك من أبرز أسباب أريحية بن علي في موقعه. وقد يكون هو مساهما في ذلك باختراقه للطرفين وتطبيق سياسة فرق تسود .
تطوّع عدد كبير من اليساريين لتأثيث التعددية الصورية التي حاول أن يستمد منها بن علي شرعيته. كانت أسماء كثيرة مثل محمد حرمل، عبد الرحمن التليلي وإسماعيل بوشيحة تلعب هذه الأدوار، وقد كانوا دائما يبررون هذا الانخراط في اللعبة السياسية لبن علي بالتكتيك السياسي حين يخاطبون قواعدهم الحزبية، وبمقتضيات المصلحة الوطنية حين يتوجّهون لوسائل الاعلام. كما أن عددا من اليساريين كانوا هم أدوات بن علي لتقويض منظمات المجتمع المدني من الداخل وثمة من جلس في أحد مقاعد مجلس المستشارين مثل محمد مواعدة.
بن علي كافئ اليسار المتحالف بجائزة لم تخطر ببال. وضع محمد الشرفي (سليل حركة آفاق وجامعة باريس)على رأس وزارة التربية ليصبح اليسار التونسي هو راعي أجيال المستقبل وليتعمّق التوجه العلماني للدولة ويأمن نهائيا جانب الدين الإسلامي في افراز إسلام سياسي.
من جهة أخرى بينما كان الإسلاميون يجتثون من الإدارة ومن الحياة العامة، فتح المجال أمام اليساريين في عوالم الفن والصحافة ومن هنا خرجت سلالة الإعلاميين مثل صالح الحاجة، زياد الهاني، عبد الرؤوف المقدمي أو زياد كريشان، سفيان بن فرحات(..). لقد أمِنهم بن علي بفضل توريطهم في منظومة امتيازات فتابوا عن الثورية وانضووا تحت مبادئ البراغماتية ذات النزعة الانتهازية والتي تحوّلت إلى نسق اجتماعي بفضل آليات الدعاية التي اشتغلت بقوة.
استفاد بن علي من هذه السياسة الناعمة تجاه اليساريين بأن وضع معظمهم نياشين يعلقها العهد الجديد على صدره تماما، كما فعل ببرهان بسيس أو النوري بوزيد أو المنصف المزغني أو علي العبيدي أو الصغير أولاد أحمد. بكلمة أخرى، أصبحت النخبة اليسارية في تونس تمظهرا آخر للدولة العميقة، خاصة أن فئة منهم اتخذوا الاتحاد ملجأ سياسيا في ظل تعددية كاذبة، وفي مقر الاتحاد يستقر جزء لا بأس به من الدولة العميقة.
كانت الثورة مفاجأة. أكثر الناس ثورية لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئا. لقد أثقلت دهون الامتيازات والبيروقراطية كل الثوريين. ولولا سقوط بن علي لما ظهر أحد منهم، ولكنها كانت مناسبة لكي يرتدي اليساريون لحاهم الماركسية القديمة، خاصة أن المشهد التونسي بعد الثورة قد بدأت تغزوه اللحى الاسلامية.
وبعد أن فاتهم الموعد الحقيقي، عاش الجميع من إسلاميين ويساريين وقوميين ثوريّتهم المفقودة في اعتصامات القصبة، ثم تهيأوا جميعا لانتخابات 23 أكتوبر 2011. كانت موسما للمزايدات ولاخراج الجاهز من المعارك القديمة والمستحدثة. لقد أمّنت المرحلة الانتقالية الأولى الدولة العميقة، ولنقل العميقة جدا حيث استدعي أحد بُناتها الأوائل الباجي قائد السبسي والذي تمكن في الأشهر التي تقلد فيها كرسي رئاسة الوزاراء أن يحفظ للدولة العميقة بقائها. صفّيت الملفات وهُرّبت الأسرار، ووضعت كل الاحتياطات التحفظية لمنع تكرّر التصدّع حتى أصبح هيكل الدولة نظيفا وجاهزا لاستقبال العريس الذي سيزفه الموعد الانتخابي.
النتائج وضعت الإسلاميين في مواقع السلطة كما توقع الجميع. عرفوا أن الكمين تلو الآخر سيعترضهم. حاولوا أن يجدوا صيغة تآلفية تحميهم منها. ولكن المقاربة الأيديولوجية لا تفضي الى شيء. ففي تونس عشنا مع حزب واحد كان بلا لون أيديولوجي . لقد أثرت براغماتية وميكيافيلية بورقيبة على نمط الدولة في تونس. لذلك فحتى لو اسنجدت النهضة بيساريين فهي ستبقى دخيلة على الدولة العميقة. وهذا ما حصل في تونس.
فهم الجميع زمن حكومة حمادي الجبالي بأن الدولة العميقة قد وضعت معالجتها الاستباقية. هيأ الاعلام لرفض أي نموذج مجتمعي جديد، الإدراة أدخلت في بيات شتوي وتحركت الآلة النقابية بمحركات نفاثة لتعطي الثورة تلك اللهجة المطلبية التي أصبحت لديها فأفرغتها من جذوتها وأنهكت حيويتها. لقد ظلت النقابات محايدة طوال فترة حكم الباجي قائد السبسي، وكان ذلك تنسيقا أو توادر أفكار بين معاقل البيروقراطية. التزم الاتحاد بتهدئة الأجواء لانجاح حكومة الباجي، وعقدت الالتزامات في صالح الطبقة الشغيلة على أن تنجز الوعود الحكومة الشرعية القادمة. في مقابل ذلك ضمن الباجي أن لا يمسّ أحد قيادات الاتحاد المتورطة في فساد سنوات بن علي. لقد حكم تونس في الفترة الانتقالية الأولى خبراء في إعدام الحقيقة.
الاعلام من جهته، وجد الدور الذي طالما تمنّاه. الوقوف ضد السلطة (خاصة أنها إسلامية) مدججا هذه المرة بكل أسلحة حرية التعبير، وحتى حرية القذف والاشاعات خاصة أن كل المحامل قد توّفرت لذلك من فايسبوك وبلاتوهات يومية تلفزية، وبهذا الجرد التاريخي أصبحنا نعرف مكونات أهم المؤثرين في المشهد الإعلامي التونسي، فهم إما استمرار لمجموعة الامتيازات الأولى التي انبثقت في التسعينات أو هم من أبناء الموجة الموالية خريجي معهد الصحافة وعلوم الإخبار ومديره الشهير محمد حمدان والذي لا يقل دلالة عن أي من رموز دولة بن علي .
إن التحالف بين الدولة العميقة واليسار التونسي هو عنوان المرحلة الانتقالية الثانية. قد يكون حزب نداء تونس هو التعبير الأفضل عن هذا التحالف. ان قراءة في أسماء قيادات هذا الحزب تقدم لنا المشهد على طبق. الباجي يمثل الدولة العميقة الأولى، علاوة على أنه من رسم خارطة مؤثثة بالفخاخ للحكومة المنتخبة، الطيب البكوش ابن النقابات التي لها سلطة التعبئة والضغط الاقتصادي على الحكومة في أي وقت كان، محسن مرزوق اليساري القديم (من الوطد في الجامعة وقد شارك في أحداث منوبة) من أجل لعب دور همزة وصل مع اليسار الذي سيكون واجهة الضغط، لزهر العكرمي القومي السابق علاوة على دلالة انتمائه الجهوي لقفصة. فوزي اللومي يمثل طبقة رجال الأعمال المستفيدين من فساد الدولة العميقة والذين لن تستمر مرابيحهم لولا فسادها. ومن وراء الستارة قد يكون كمال اللطيف ممسكا بين يديه عددا من خيوط اللعبة، لنفهم من خلال هذه المقاربة أن حربه مع شفيق الجراية ليست كما يمرر للعامّة على أنها حرب بين داعم لنداء تونس وداعم للنهضة، وانما هي نفسها الحرب القديمة بين عائلة بن علي وأصدقائه القدامى من جهة، وحلفاء الطرابلسية من جهة أخرى. وهكذا سندرك أن لا شيء تغيّر في المياه العميقة لتونس، كل شيء ظل على حاله حتى الحروب الصغيرة. فقط هي قشرة انتقالية ارتدتها الدولة من الإسلاميين وحلفائهم، وقد جاء التحالف الجديد لليسار والدولة العميقة ليبتلعها هي أيضا.
هكذا نرى أنه في كل مرة يدخل الشعب التونسي في مسار ترجمة إرادته في مؤسسات أو المضي نحو الحرية والتنمية والعدالة، الا وتدخلت آلة الدولة العميقة لمنع ذلك لأن مصالحها تتعارض بالسليقة مع المصلحة العامة. وفي كل مرة يتمّ الاستنجاد بعائلة اليسار التونسي والذي لا يبدو عليه أنه يأخذ عبرة أبدا. يتخذونه قفازات إلى حين اكمال مهمّة دحر خصم ثم ينزعونها بكل بساطة. غير أن ما آلت اليه الاحداث في تونس من اغتيالات وعمليات إرهابية تشير أن التحالف مع اليسار لم يكن كافيا لايقاف الثورة التي تتقدم وتدوس مواقع الدولة العميقة. لذلك استنجدت ب اليد الحمراء (يد النظام العالمي الذي ترتبط بمصالحه) لتصفية الثورة نهائيا، هذه اليد الحمراء التي ضربت وجوه اليسار بالذات.
الثورة الخفيفة .. الدولة العميقة (1) تجذّر الدولة العميقة في تونس
الثورة الخفيفة .. الدولة العميقة (2) تجذّر الدولة العميقة في تونس
الثورة الخفيفة .. الدولة العميقة (2) تجذّر الدولة العميقة في تونس
Comments
25 de 25 commentaires pour l'article 70401