عبد الفتاح مورو يلقي درسا بمسجد البحيرة

ينزل الشيخ الأستاذ عبد الفتاح مورو ضيفا بمسجد البحيرة , مساء الأربعاء 29 جوان 2011 , لإلقاء درس بعد صلاة المغرب.
الشيخ عبد الفتّاح مورو
بقلم جلال الدين بلخوجة
من منا لم يبلغ الثلاثين فما فوق من عمره ولم يمر يوما ما على اسم الأستاذ المحامي الشيخ عبد الفتاح مورو ؟
رجل عرفه التونسيون والتونسيات منذ عقد الستينات , حيث كانت له صولات وجولات داخل الجامعة التونسية حين افتتح أول قاعة صلاة بكلية الحقوق بالعاصمة تونس , ثم عرفته حلقات جامع الزيتونة الشهير حين كان يتردد في أواخر نفس العقد على حلقات الشيخ الفقيه المالكي بن ميلاد
الشيخ مورو , علم تونسي يتفوق فقها ومرونة واعتدالا وذكاء على كثير من نظرائه الذين عايشوا حقبة التصحر الديني أيام الحكم البورقيبي , حين كان بارعا في استهداف التدين تحت جبة محاربة رموز التقليد والتخلف
كان للرجل انتقال فاعل وتاريخي من التصوف إلى الإسلام الشامل في معالجته لقضايا العصر والحياة , ومن ثمة كان من الجيل الأول الذي بث الحياة من جديد في المساجد والجامعات والمعاهد حين عمل على إعادة الروح إلى الإسلام المعتدل خطيبا مفوها وبارعا في مهارات الإقناع بأساليب الطرافة والترغيب
عاشت تونس حقبة ثقافية حرجة في حقد السبعينات , حين كانت الجامعة وحقول الفعل الثقافي تحت سيطرة ماركسية , متأثرة في ذلك بموجات من المد الشيوعي العالمي الذي اكتسح أقطارا عربية كثيرة كمصر والعراق وسوريا واليمن وليبيا والمغرب الأقصى
وقد كانت الحركة الماركسية الرافعة للواء الجدلية المادية ولشعار أفيونية الدين , تشهد أوج قوتها في الساحة الطلابية التونسية , حيث وصل الأمر الى تجديد يومي للولاء لماركس ولينين وانجلز عبر اجتماعات طلابية وحلقات نقاش وتظاهرات ثقافية وسياسية كان بعضها لا يخفي ولاءه للرفاق في الاتحاد السوفياتي المنهار أو لزعامات الكرملين بالعاصمة موسكو
الأستاذ عبد الفتاح مورو انبعث فاعلا في الحقل الثقافي الإسلامي المعاصر , كرجل له تأثيره الواسع في تونس وبعض دول الجوار المغاربي وأقطار أخرى , حيث شاع صيت الرجل في الثمانينات بليبيا والمغرب الأقصى والجزائر وحتى المملكة العربية السعودية التي أقام بها بعضا من الزمن قبيل إقصاء بورقيبة وبشكل نهائي عن الحكم
كان الرجل بجبته التونسية التي يلتزم بها على الدوام في غير أوقات المرافعة القانونية , علامة فارقة في تاريخ حركة الاتجاه الإسلامي التي نشطت في السبعينات تحت مسمى الجماعة الإسلامية ثم أعلنت عن نفسها كحزب تونسي يريد النشاط في إطار القانون والدستور في السادس من جوان , سنة 1981
الأستاذ مورو , سجن بعد الإعلان عن تأسيس الحركة في تلكم السنة , وقد قاد مفاوضات من داخل السجن مع السيد عمر شاشية كممثل شخصي عن بورقيبة من أجل تسوية سياسية لملف معتقلي الاتجاه الإسلامي الذين قدر عددهم انذاك بحوالي 600 شخص من العناصر القيادية
خرج عمر شاشية يوما ضاحكا في ممرات السجن , بعد أن تشبع بطرافة الأستاذ مورو واقتنع بماللرجل من قدرات فائقة على المرونة والاعتدال , وروى شهود عيان مقارنة لهذا الأخير بين الشيخ مورو وبعض القيادات البارزة على رأس التيار
كان الأستاذ مورو منفتحا على الأوساط السياسية الوطنية وحتى الخارجية , إذ لازلت أذكر استهداف اليسار له بصفة شخصية داخل أروقة الجامعة نهاية الثمانينات ومطلع التسعينات عبر الحديث عن تلبيته الدعوة لبعض التظاهرات أو الاحتفاليات التي نظمتها السفارة الأمريكية
للرجل خلاف شهير مع بعض من قيادات حركة النهضة التونسية التي خلفت حركة الاتجاه الإسلامي سابقا , حيث دعي لاجتماع رسمي بفيلا بجهة مرناق سنة 1989 أو نهاية سنة 1988 من أجل التباحث بشأن مشاركة النهضة في الاستحقاق التشريعي في نفس قوائم الحزب الحاكم أو مع أحزاب أخرى , فقبل الرجل بالعرض وصرح في جلسة ضيقة بأن المراد هو مشاركة محدودة من شأنها تبليغ صوت التيار الإسلامي للسلطة عبر قبة البرلمان
لم تلتزم حركة الديمقراطيين الاشتراكيين يومذاك بما اتفق عليه بفيلا مرناق , وقرر رئيسها المستيري الدخول بقوائم حزبه الخضراء في المنافسة التشريعية , وهو ما شكل عامل استفزاز لبعض قيادات النهضة التونسية وفتح الباب واسعا أمام التخلي عن تعهدات الأستاذ عبد الفتاح مورو , ومن ثمة اتخاذ قرار المشاركة الواسعة عبر القوائم البنفسجية المستقلة…
كان ميل الأستاذ مورو على الدوام إلى العمل الثقافي والسياسي السلمي , مسألة محسومة وهو ما جعله يتخذ قرارا بتجميد عضويته في حركة النهضة حال دخول البلاد في دوامة المواجهة بين السلطة و الإسلاميين مطلع التسعينات من القرن الماضي
ربما رأى البعض في انسحابه يومذاك قرار كارثيا على الحركة حيث انزوى البعض من طلاب الاتجاه وحملة لواء مشروعه الثقافي إلى غرفهم الجامعية باكين ومتحسرين …, إلا أن الرجل في تقدير اخرين وكثيرين كان وفيا لمبادئه حين خشي على التيار من انزلاقات الصدام العنيف مع سلطة متهيبة ومتربصة بمن خالفها على مستوى الفكرة والرأي
مرت الآن عشرات السنين تقريبا , على حادثة تجميد العضوية من قبل الأستاذ عبد الفتاح مورو و اخرين نذكر من بينهم قادة بارزين من أمثال بن عيسى الدمني , الفاضل البلدي ونور الدين البحيري وحسم هؤلاء في وقت مبكر مع خيار المواجهة غير المتكافئة مع السلطة .., إلا أن ذلك لم يشفع لهم وظلوا على مدار تلك الفترة الزمنية عرضة لمضايقات كثيرة أقلها المنع من السفر والمحاصرة أحيانا في لقمة العيش

حاول الأستاذ مورو يومذاك تأسيس حزب سياسي جديد منبثق من أرضية ثقافية وطنية إسلامية معتدلة , وكان مشروعه لحزب الشعب محل رفض وتشنج , برغم عضويته على تلك الحقبة في المجلس الإسلامي الأعلى – وهو هيئة دينية رسمية -
انكفأ الشيخ مورو في ظروف الحصار على مشاغله المهنية , وتفرغ إلى تفسير بعض من القران الكريم مضيفا ومجددا , كما اهتم بجمع مؤلف يشرح فيه الأمثال الشعبية التونسية , بل ان الطريف أنه قام على جمع الطوابع البريدية النادرة والأباريق أو البرادات بمختلف أحجامها …! , وفي مدة عشرين سنة كان الرجل ممنوعا من السفر ومن النشاط العلني مع هيات المجتمع المدني , حتى نسيه البعض وظنوا أن الساحة الإسلامية التونسية لم تنتج إلا أقلية تطاردها بعض السجون أو المنافي …
وحين غاب أو غيب رجالات بحجم فعل ووعي وفقه الأستاذ عبد الفتاح مورو , فتحت السلطة للأسف الباب على تدين أصبح ملك فضائيات مشرقية تصدر الفتوى تارة بجبة حنبلية وتارة أخرى بجبة قادمة من جبال وأعالي فقه سد باب الذريعة و إخماد روح العقل والعصر …
مشهد مؤلم أن تقصي السياسة والصراع الأيديولوجي في بلد الزيتونة وعقبة صوت هذا الرجل , ليصبح التونسيون باحثين عن الفتوى وعلوم الفقه في بلد غير تونس , فالبلد عرف جفافا وتصحرا دينيا وثقافيا ما زال يلقي بظلاله الثقيلة على المشهد العام … , لولا بوارق أمل جاءت من وراء إذاعة الزيتونة للقران الكريم ومشاريع إسلامية ثقافية أخرى ما زالت تخفض رأسها تحت وطأة محنة التسعينات وما أحدثته من ثقب أسود عظيم في تاريخ تونس المعاصر …
غاب الشيخ عبد الفتاح مورو أو غيب عن المشهد طيلة عقدين تقريبا , واستفاد اخرون في السلطة والمعارضة , وكان لأقصاء الرجل ثلمة في مشروع وسطي بشر بالحرية والعدل , فتكالبت عليه قوى الداخل منتقمة من عودة الروح إلى الفكرة الإسلامية المعاصرة بروحها التونسية الحداثية
واقع وطني وسياسي وثقافي جديد يتشكل اليوم , لكن الشيخ مورو لن يمحي حتما من ذاكرة التونسيات والتونسيين وسيواصل إشعاعه كعلم من أعلام تونس وزيتونتهاـ
عبد الفتاح مورو
بقلم جلال الدين بلخوجة
Comments
12 de 12 commentaires pour l'article 36093