ايداع عون البريد في السجن.. القضاء بين الاستقلال والتغوّل

<img src=http://www.babnet.net/images/1b/boostax1.jpg width=100 align=left border=0>


بقلم: شكري بن عيسى (*)

حرب بيانات حقيقية عاش على وقعها الشعب على امتداد ستة ايام كاملة بين اتحاد الشغل ونقاباته العاملة في قطاع البريد ومحكمة توزر الابتدائية والناطق الرسمي باسمها والهياكل المدافعة عنها، و غلق لمرفق عمومي حساس: البريد، ولا أحد يعرف بالضبط حقيقة المشكلة بعد الاتهامات المتبادلة من الطرفين واصرار كل منهم على موقفه وقراره والنقل السطحي لمعظم وسائل الاعلام التي لم تتحر بما يكفي في القضية الدقيقة.

...

وبين مطالبة البريديين ونقابتهم تحت اشراف اتحاد الشغل باطلاق سراح زميلهم المودع بالسجن ورفضهم ما اعتبروه تجاوز سلطة في حقه، وبين مطالبة القضاة باحترام سلطة القضاء وهيبته التبست الامور، وبين رفع شعار المحاكمة العادلة من البريديين ورفع شعار استقلال القضاء تعقّدت الاوضاع، ولا ندري الحقيقة مآل هذه القضية التي تمترس فيها كل قطاع حول هياكله النقابية وادعى أن الحق في جانبه.

اطلعت الحقيقة على اوراق القضية وعلى كل البيانات المتصلة بها من الجانبين، وعلى عديد التصرياحات الاعلامية الصادرة على الاطراف المتداخلة، وعلى عديد التدوينات على شبكات التواصل الاجتماعي فايسبوك من المرتبطين بالقضية من الطرفين، وأهم ما شد انتباهي هو الفصلين الاساسيين الذين تم بمقتضاهما احالة عون البريد على محكمة ناحية توزر وايداعه السجن (الفصلين 3 و8 من النظام الاساسي العام لأعوان العمومية العمومية: القانون عدد 112 لسنة 1983) لا يمكن انطباقهما على اعوان البريد الذين يخضعون لقانون مختلف: القانون عدد 78 لسنة 1985 المتعلق بالنظام الاساسي لاعوان الدواوين والمؤسسات ذات الصبغة الصناعية والتجارية والشركات التي تمتلك الدولة راسمالها بصفة مباشرة وكليا.

والحقيقة ان انطلاقنا من هذا المعطى الاساسي للاشارة أن القاضي بوجه عام يخطىء، وهو ما يبرر درجتين من التقاضي وطعون ومحكمة قانون (محكمة تعقيب) ووجود احكام متناقضة بين مختلف هذه الدرجات والمراكز، وللملاحظة الحقيقة أن التحري في ايداع شخص في السجن وجب ان يكون عميقا، ولا داعي الحقيقة في تقديرنا (وهذه اصبحت نقطة تتمحور حولها السياسة الجزائية في البلد التي لا نظن ان السادة القضاة يجهلونها) للاحتفاظ بشخص طالما أنه يملك عنوانا معلوما ووظيفة معلومة ولا يشكل خطرا على النظام العام، والامر يصبح مطلوبا اذا ارتبطت بالقاضي (المعني او اي قاضي آخر) شبهة تجاوز سلطة لوجود خلاف مباشر مع المعني.

والقضاء اليوم الحقيقة هو أحد ركائز الديمقراطية وهو سلطة اساسية مستقلة، ضامنة لعلوية الدستور وسيادة القانون وهي الحامية للحقوق والحريات وقبل ذلك اقامة العدل الذي هو حق كل متقاضي عبر محاكمة عادلة تضمن فيها كل حقوق الدفاع، وفي واقعة الحال الاحالة تمت على آساس مخالفة منصوص عليها بالفصل 315 من المجلة الجزائية وعقوبتها 15 يوما سجن وخطية قدرها 4 دنانير و800، هذا ان ثبتت وليست جريمة خطيرة، والأصل حتى لو كانت خطيرة وجب التحري والتدقيق وبقاء مجرم خارج السجن يسبّق على سجن مشتبه قد يظهر بريء.

الفاروق عمر بن الخطاب في رسالته لأبي موسى الاشعري في القضاء ذهب أبعد من ذلك الى طلب مراجعة القاضي لحكمه اذا اتضح عدم صوابه ولا يمنعك من قضاءٍ قضيته اليوم فراجعت فيه لرأيك وهديت فيه لرشدك - أن تراجع الحق؛ لأن الحق قديمٌ، لا يبطل الحق شيء، ومراجعة الحق خيرٌ من التمادي في الباطل ، ونقول ذلك لما ارتبط بالقضية من شبهات واتهامات من النقابة بتجاوز القضاء لسلطاته ووقوعه تحت تاثير رد الفعل والانتقام، وهذا ما لا نريد لقضائنا ان يلتصق به مهما كبرت الشبهة او صغرت.

طبعا الناطق الرسمي باسم المحكمة الابتدائية بتوزر ماهر البحري مساعد وكيل الجمهورية تحرك واصدر بيانا بتاريخ 16 جوان، بيّن فيه وقائع القضية من وجهة نظر المحكمة واعتبر ان عون البريد امتنع عن تسليم عون المحكمة البريد واكد انه كان بحوزته تكليف صادر من وكيل الجمهورية، واعتبر ذلك ضربا عرض الحائط بمؤسسة وكالة الجمهورية وسلطة وزير العدل بعد رفض عون البريد الرد على اتصال وكيل الجمهورية الهاتفي، وجمعية القضاة ايضا اصدرت بيانا بتاريخ 17 جوان على خلفية بيان وزارة العدل وبيان وتصريحات نقابية تشير الى وجود اتفاق مع الوزارة سيتم بموجبه اطلاق سراح عون البريد، رفضت الجمعية فيه اي تدخل او ضغوط للمساس باستقلال القرار القضائي وحياده وطالبت الوزير بتوضيح موقفه.

أمّا الهيئة الوقتية للقضاء العدلي فاصدرت بيانا بتاريخ 19 جوان بدا اكثر توزانا، اذ بقدر ما دعا وزير العدل لاحترام الفصل بين السلط واستقلال القضاء، واكد على استقلال القضاة، واعتبر ان رفض القرارات القضائية هو رفض للخضوع لسلطة القانون، فانه لم يغلق الباب امام نقد الاحكام القضائية في نطاق حرية التعبير بشرط ان لا تكون في نطاق الضغط، كما اكد ان القضاة غير محصنين ويظلون خاضعين للمساءلة عند الانحراف بالسلطة.

وما يجدر في الخصوص ان اتحاد الشغل حاد عن القانون بتظلمه لدى وزير العدل ولو انه برر الاضراب بردة فعل تلقائية صادرة عن اعوان البريد في نطاق التضامن مع زميلهم وانه تصرّف من منطلق حرصه على استقرار الوضع العام في البلاد، وانه بالعكس يحترم استقلال القضاء ويظل كما كان من اول المدافعين عنه ولكن وجود شبهات في القضية هي ما دفعه للتحرك.

شخصيا اطلعت على كامل الملف وعون المحكمة الذي تم ارساله لسحب البريد صرح انه لا يمتلك بطاقة هوية، وان كان يحمل تكليفا ممضى من وكيل الجمهورية نافذ منذ تاريخ 30 أفريل الا انه مخالف للمطبوعة الرسمية المعتمدة لدى البريد: تفويض لعون مكلف بسحب البريد الذي يجب ان يكون في نظيرين وممضى من ممثل المحكمة وممثل البريد ومحدد المدة وتلتزم فيه المؤسسة المعنية باحترام قوانين وتعليمات الديوان الوطني للبريد ، وبذلك فيبدو جليا ان عون البريد لم يخالف القانون، وهو ما يؤكده تكليف ادارته محامي للدفاع عنه، وحمى بذلك سرية مراسلات المحكمة وحقوقها، اما عن عدم رده على مكالمة وكيل الجمهورية فهو الحقيقة غير مطالب بذلك ولا شيء يلزمه قانونا، كما ان لا شيء يرتب عن عدم رده عقوبة فضلا عن المتصل قد لا يكون وكيل الجمهورية، والمؤسسات تتعامل بالوثائق الرسمية وليس اعتمادا على الاتصالات الهاتفية.

فعلا أزمة كبرى في البلاد وتعطيل لمصالح الناس وخسائر كبرى لمؤسسة مالية وطنية عمومية، كان يمكن حلها بطريقة أخرى اسهل من ذلك بكثير لو طبقت المحكمة القانون وارسلت مطبوعة رسمية ممضاة واتبعت الاجراءات الادارية المعمول بها حتى لا ترمى بالتغوّل وتجاوز السلطة في الوقت الذي يمثل فيه استقلال القضاء ونزاهته وحياده وكفاءته وعدله مطلب كل الشعب التونسي، ونريده ان يكون حاميا حقيقيا لعلوية الدستور ولسيادة القانون وضامنا للحقوق والحريات وركيزة العدل الاولى في البلاد ولا يغرق في مثل هذه القضايا التي تزيد في زعزعة مركزه واعتباره ولا تقدم به نحو رسالته النبيلة.

(*) قانوني وناشط حقوقي








   تابعونا على ڤوڤل للأخبار

Comments


16 de 16 commentaires pour l'article 127184

Othman Ouislati  (Sweden)  |Mercredi 22 Juin 2016 à 02h 43m |           
كيف يجوز إرسال مواطن إلى السجن دون محاكمة و زيد فى رمضان و زيد فى حكاية فارغة و زيد خالوه امطيش غادى ما بين المجرمين ????

Othman Ouislati  (Sweden)  |Mercredi 22 Juin 2016 à 02h 29m |           
ورقة التوت صقطت من عورة العقلية التونسية كل وحد يجبد من شيرة كرامة اتونسى سواء فى المجتمع فى نظر إصلط ولى فى الخارج تسوى zéro à gauche

Ahmedmabrouk  (Luxembourg)  |Mardi 21 Juin 2016 à 19h 33m | Par           
لو ما ذكر اعلاه صحيح فعي فضيحه كبرى في الجهاز القضائي و افراط واضح في السلطه من اجل غايات شخصيه و عليهم الافراج فورا عن عون البريد و الاعتذار له

TheMirror  (Tunisia)  |Mardi 21 Juin 2016 à 13h 13m |           
عندما يقوم القضاء بواجبه يغضب السفهاء منا

BenMoussa  (Tunisia)  |Mardi 21 Juin 2016 à 11h 53m |           
ملخص القضية العدلية كما جاء في مقال الاستاذ شكري بن عيسى أعلاه :
ـ عون المحكمة لا يمتلك بطاقة هوية ويحمل تكليفا مخالفا للمطبوعة الرسمية المعتمدة لى البريد
ـ لا شيء يلزم عون البريد قانونا بالرد على كل المكالمات التي تصله ولا دليل لديه بان المتصل هو وكيل الجمهورية
ـ احالة عون البريد على القضاء وايداعه السجن كان بناء على فصلين من القانون 112 لسنة 1983 والمتعلق بالنظام الاساسي العام لاعوان السلطة العمومية وهو لا ينطبق على عون البريد الخاضع لقانون 78 لسنة 1985 المتعلق بالنظام الاساسي لاعوان الدواوين والمؤسسات ذات الصبغة الصناعية والتجارية والشركات التي تمتلك الدولة رأس مالها بصفة مباشرة وكليا
ـ لا داعي للاحتفاظ بشخص طالما انه يملك عنوانا معلوما ووظيفة معلومة ولا يشكل خطرا على النظام العام

وأضيف من عندي أن مواصلة الاحتفاظ به شكل خطرا على النظام العام وعلى المصلحة العامة للدولة وللمواطنين
فهل يعي القضاء ذلك ؟ وهل القضاء سلطة فوق كل السلط ؟

Lafi Belgacem  (Tunisia)  |Mardi 21 Juin 2016 à 11h 33m | Par           
كالعادة نورتنا شي شكري بن عيسى يرحم باباك لأنك ازلت شبهات كثيرةحامت حول الموضوع

Uniret  (Tunisia)  |Mardi 21 Juin 2016 à 11h 32m |           
بقدر ما أتضامن مع المواطنين المتضررين من جراء الإضراب بقدر ما أتضامن مع عون البريد الذي أعتبره ضحية مظلمة وحكم طغت عليه الانفعالات الشخصية وغاب فيها الحلم والتروي (انها "حشيشة رمضان") رغم أنه كان عليه أن لا يتعنت بهذه الطريقة ويطلب مثلا شهادة شخصين معهم بطاقة والهوية وهذا للأسباب التالية :
1. إنه من واجبه ومن حقه طلب بطاقة الهوية ولو فعل عكس هذا لكان محل تتبع من طرف القانون.
2.
.كذلك الحال بالنسبة للهاتف ونحن نشهد يوميا استعمالها بطريقة غير قانونية وانتحال أصوات والتحايل.
ومن المؤسف أن يكون وقع حشر السيد القاضي والحال أنه يمكن أن يكون من أكثرهم عدلا والله أعلم.
وعلى العموم رب ضارة نافعة ونحن في طور بناء الديمقراطية الصحيحة هذه فرصة لوضع النقط على الحروف وتفادي التغوّل من أي من الأطراف سواء القضاء أو النقابة.

Bb-lh Tra AB Bois  (Sweden)  |Mardi 21 Juin 2016 à 11h 26m |           
تى فى أى دولة إلموضف يدخل للحبس على خاطر ما أعملش خدمتو وفى أي دولة يجى من غير بطاقت تعريف و يطلب أوراق مهمة و فى دولة تصكر إلبريد فى لبلاد لكل إنعم فى دولة إلبنان و إلاقمى كل شى م ممكن

DinarTn  (Tunisia)  |Mardi 21 Juin 2016 à 11h 12m |           
Si à chaque probleme administratif, il faut faire une greve nationale de 7 jours...
Que l'agent aie raison ou pas, il ne faut jamais prendrele peuple en otage !

BenMoussa  (Tunisia)  |Mardi 21 Juin 2016 à 11h 02m |           
أولا شكرا على الايضاحات وان جاءت مطولة وممطتة وكان بالامكان اختصارها تعميما للفائدة
ثانيا يقول المثل الشعبي اذا كان خصيمك الحاكم لشكون تشكي ؟
فلا يجوز أن يكون الخصم حكما ولو تعددت درجات التقاضي فلا يمكن التظلم من سلطة القضاء الى القضاء
ثالثا يجب مراجعة منظومة القضاء ووضعها في خدمة المواطن ومنعها من التسلط عليه ومن ذلك الغاء مهزلة العطلة السنوية للقضاء وتعطيل المصالح لمدة شهرين سنويا فالقاضي يمكن تمتيعه باجازته السنوية ككل الموظفين ولكن دون اللجوء الى غلق المحاكم وذلك اسوة بكل الادارات الاخرى والا لماذا لا نغلق ايضا المستشفيات والقباضات المالية والبلديات ونبقي فقط على فروع استعجالي فقط ام ان القضاء اقل اهمية من كل هذه المصالح ويمكن الاستغناء عنه لفترات طويلة من السنة

Citoyenlibre  (France)  |Mardi 21 Juin 2016 à 10h 54m |           
Il faut reconnaitre que parmi les juges il y en a qui commettent des injustices ,et quand il s agit d emprisonner un innocent par exces de zele ou vengeance ,on doit s attendre a de tels resultats ;

Mongi  (Tunisia)  |Mardi 21 Juin 2016 à 10h 53m |           
مؤسسات الدولة أصبحت تتعامل بحميّة مفرطة وتحرّكها الفوضى. ويجب على الدولة ممثلة في هرب السلطة (الحكومة) أن تبادر إلى التدخّل الفوري لحلّ الإشكال وفرض الانضباط وإلاّ فقد أخلّت بواجباتها. شنوّة تصير كارثة في البلاد والمصالح معطّلة والرّاجل في الحبس وبعد يطلع القاضي غالط ومخالف القانون ؟ امّالا الحكومة ووزير العدل وكل المؤسسات الحقوقية علاش مجعولة ؟

KhNeji  (Tunisia)  |Mardi 21 Juin 2016 à 10h 53m |           
تعقيدالقضيةهوبسبب حشرالإتحادأنفه فيها ولو بقي بعيدا لماوصلناإلىهذاالمأزق لكن لاننسىأن هناك إستعراض عضلات من هذاالإتحاد مخلب النكبةالشعبيةقبل تشكيل حكومةالوحدةالوطنية

Falfoul  (Tunisia)  |Mardi 21 Juin 2016 à 02h 25m |           
إذا كانت المسألة هكذا فالنغلق محاكم الإستئناف و التعقيب و ليتوجه كل من يعتقد أنه مضلوم إلى اتحاد الشغل ليشن اضراب ... راهو شي يكوخر ألهذه الدرجة عندنا حمقى و جهلة في هذا البلد ...

Falfoul  (Tunisia)  |Mardi 21 Juin 2016 à 02h 18m |           
النزاعات القضائية و القانونية تحسم داخل قاعات المحاكم من طرف المختصين لا في الشارع و لا في اتحاد الشغل و لا في مواقع العمل ... إتحاد الشغل يريد أن يصبح دولة داخل الدولة ويستولي على كل السلطات تشريعية و قضائية و تنفيذية ... ملا قعباجي و ملا تخلف ... اللي يخلي الإنسان يتعجب هو كيفاش هذا الموظف ما يتوجهش للقضاء لأخذ حقه إن كان له حق و يتجه لإتحاد الشغل الذي ليس له أي كفاية و لا أي صفة و من ناحية أخرى كيف أصبح الإضرا يوظف بطرقة كاراكوزية مضحكة مبكية
في كل شاردة وواردة ...

MOUSALIM  (Tunisia)  |Mardi 21 Juin 2016 à 02h 08m |           
يجب التصدي لكل تغول من أي كان والشعب قادر على ترويض كل الأسود في حلبة السيرك الكبير


babnet
All Radio in One    
*.*.*