التعليم العالي الخاصّ، أين ستأخذنا الفوضى؟

بقلم حامد الماطري
خبر صادفني، و هو يحمل بين طيّاته أكثر بكثير مما يصرّح به: منظّمة الأعراف مستاءة، و مندهشة من مواقف وزير التعليم العالي تجاه الجامعات الخاصّة، و التّمشّي الذي يمضي فيه نحو فرض أن تكون مؤسساتاً غير ربحيّة..
خبر صادفني، و هو يحمل بين طيّاته أكثر بكثير مما يصرّح به: منظّمة الأعراف مستاءة، و مندهشة من مواقف وزير التعليم العالي تجاه الجامعات الخاصّة، و التّمشّي الذي يمضي فيه نحو فرض أن تكون مؤسساتاً غير ربحيّة..
ممّ الدّهشة؟ الهذه الدّرجة اصبح كلّ شيء مبنيّاً على الرّبحيّة و المنفعيّة و الاولويّة للاستثراء، و مهما كان الثّمن؟
أم لأنّه لا يخدم مصلحة شبكات المصالح أو رؤوس الاعمال و المتنفّذين ممّن ينشط في القطاع الذي تحت تسييره؟
في الحقيقة، غرائب كثيرة احتواها هذا البيان... أوّلها أن ما تستغرب منه منظّمة الأعراف هو الصّيغة المعمول بها في أوروبا و أمريكا و كلّ الجامعات التي تحترم نفسها، و الدّول التي تريد أن تبقي على احترام شهائدها. كما ان المنظّمة حذّرت من تبعات هذا القرار ملوّحة بمستقبل آلاف الطّلبة، و مئات مواطن الشّغل...
آسف، لكننا لا نتحدّث هنا عن معامل للأحذية او للطّماطم المصبّرة. نحن نتحدّث عن عمليّة تكوين عالي، سينعكس تأثيرها على بلادنا على مدى عشرات السنين.

السّيّد وزير التعليم العالي -مهندس متكون في تونس و أستاذ في مدرسة المهندسين بتونس و مخضرم في وزارة التعليم العالي- يتصارع حاليّا مع اصحاب الجامعات الخاصّة، الشيء الذي جعله محلّ هجوم عنيف من قبل منظّمة الأعراف. ذنبه أنو يريد فرض المزيد من التّأطير و النّظام في قطاع عمّته الفوضى لدرجة باتت تهدّد بكلّ جدّية قيمة الشّهادات في تونس.
لا أستطيع الا ان احترم السّيّد الوزير و أشدّ على يديه. و ان كنت اعتقد أن الأوليغارشيا اللي تحكم بلادنا اليوم لن تقبل مساعيه و -ان لم يرضخ بمحض إرادته- ستعمل هي على ابعاده مع اول فرصة متاحة.
اعلم حتما ان كلامي لن يعجب الكثيرين... لست قطعيّاً ضدّ الجامعات الخاصّة، بالعكس، هي فضاءات قد تسمح بتحقيق تميّز و مستوى قد لا تجده في المؤسسات العامَّة. مدارس مثل هارفرد و MIT و YALE و Cambridge و Oxford و غيرها من الأسماء المرموقة هي جامعات خاصّة، لكن تحكمها معايير و نظم اصعب من تلك اللي تسري على المؤسسات الحكومية. كم كنّا نتمنّى لو كانت جامعاتنا الخاصّة بمثل هذا المستوى او حتى ان تقتدي به، لكنه ليس الحال.
في تونس، و مع احترامنا لبعض الاستثناءات (التي تبقى استثناءات قليلة)، ازدهر التعليم العالي الخاصّ بشكل فوضوي و مقلق. و القلق لا يتاتّى من ازدهاره، بل من الفوضى الذي تكتسيه، اذ لا يمر يوم الا و ترى إعلانا جديدا او ملصقات تدعو الطلبة للالتحاق بهذا المعهد، او بذاك الاختصاص او بتلك المهنة... اختصاصات بأسماء رنّانة و مطلوبة: Telecom، Commerce International, Polytechnique، او عناوين مربوطة مباشرة بمهنة الأحلام: بترول، طيران...
و تراك تتطلّع الى المبنى و هو عبارة عن عدد من الشّقق الضيّقة المكتراة في حيّ دائم الازدحام، و التي زيّنت بمجسّمات اشهاريّة ، طليت بألوان زهرية او زرقاء (تتناغم و الاختصاص او الحلم الذي تبيعه)، و تجد نفسك تتساءل: كيف يمكن دراسة الطّيران في مكان كهذا؟
اليوم اصبح بعث جامعة خاصّة هو اقرب الى اي بزنس من مستوى معيّن، لا يختلف كثيراً عن بعث مصحّة خاصّة (أربعة اطبّاء بدوام جزئي، و خدمات موجّهة أساسا الى الولادات، و ما تيسّر من الحرفاء الليبيين ) او مركز لياقة (ملعب للعشب اصطناعي تحذوه قاعة رياضة، تحتها مقهى شيشة، ليتحوّل الكلّ الى قاعة أفراح طوال فترة الأعراس في الصيف)...
كذلك الجامعات الخاصّة، اغلبها مشاريع تجارية تودّ استقطاب قدر أقصى من الحرفاء ، و تضع المسألة النّوعيّة في ذيل الأولويّات : أربعة أساتذة مبرّزون، متعاقدون بدوام جزئي، و عشرة أساتذة آخرون، بخبرة محدودة يملأون بهم جدول الحصص. عدد من قاعات الدّروس، و قاعتان ب10 حواسيب بكلّ منها تكون قاعة الدّروس التّطبيقيّة ، و من ثمّ يتحفك المدير و هو يقصّ عليك كيف ان العلم قد تطوّر و اننا -في القرن الواحد و العشرين- لم نعد بحاجة الى المختبرات حيث يمكننا ان نمثّل كل التجارب عبر برامج المحاكاة على الحاسوب...!
المشكلة هي ان التّونسيّ مستعدّ ان يضحّي، و أن يصرف الكثير من اجل تعليم ابنائه و تحقيقهم لشهادة، خصوصا اذا كان ذلك مقترنا بأمل الحصول على وظيفة محترمة. و التونسي ميسور الحال يفضّل ان يدرس ابنه او ابنته في البحيرة، المنار، او منبليزير، ان يستمتعا في حياتهما الجامعية، و ينالا شهادة (مضمونة) و بعناوين رنّانة، بدل أن يعوّلا على نتائجهما في الباكالوريا فيجدا أنفسهما موجّهين الى احدى الكلّيّات في صفاقس، القيروان او قابس، لتكون لهم معاناة البعاد عن حضن الدّلال الأسري، و التأرجح بين النجاح و الرّسوب، و هذا قد لا يناسب المستوى الاجتماعي الذي يرى الولد نفسه فيه..
و هكذا جاءت الجامعات الخاصّة لتستجيب لمثل هذه الحاجات المستحدثة!
بنتي، ولدي، آش تحبّ تطلع؟ اطلب و انا بفلوسي نقرّيك، و تأخذ الشّهادة، و من بعد، بمعارفي نخدّمك...
كثيرون يتباكون على بورقيبة و مكاسب بورقيبة، بينما يتناساون أنّ أهمّ مكاسب الدّولة التونسيّة الحديثة كان المصعد الاجتماعي .. ذاك المصعد الذي سمح للكثيرين ان يخرجوا من حلقة الفقر ليصنعوا أنفسهم، و يغيّروا واقعهم، بل و واقع أسرهم و أهليهم كذلك احيانا... هذا المصعد الاجتماعي الذي شكّل الحلم المتحقّق الذي خلق المعجزة التونسية و جعل من بلادنا ما هي عليه، خدمه تعليم عالي تونسي سويّ، عادل، لا يحابي و لا يتهاون...
هذا المصعد عطّله ذات الجيل اللي استعمله و صعد به.. تعطّل بسياسة المعارف و الأكتاف، و أصبحت منح التّميّز للخارج لا تسند الا لأبناء و بنات الأساتذة المتنفّذين، و اصبح أبناء الأطباء مبجّلين في كلية الاطبّاء، و أبناء القضاة أوفر حظّا للنجاح في مناظرات القضاة!
و بعد ان فقد التعليم العالي التونسي الكثير من قيمته بالسّياسات الرّعناء و الانفتاح المغلوط الذي سعى اليه بن علي و نظامه، ها هي حكومات البزناسة تعمل على ردم ما تبقى منه. و كذلك بعد أن فقدت الشّهادة الكثير من قيمتها الاجتماعية، ها هي اليوم بصدد فقدان الكثير من قيمتها العلميّة!
اليوم أصبح لدينا متحصّلون على استاذية في اختصاصات لا يحذقونها، و لا يقابلها شيء في سوق الشغل، و دراسات معمّقة و مرحلة ثالثة أشبه بقاعاته الانتظار لمن لا يجد شغلاً، و مشاكل اخرى لا تنتهي...
و مع هذه الفوضى الحاصلة، و التي تحتاج الى مشاريع كبرى من الإصلاح، نضيف على فوضى التعليم العالي العمومي، الفوضى التي تحدثها عشرات الجامعات و معاهد التّكوين الخاصّة التي اجتاحت الفضاء كما تفعل البناءات او الانتصابات الفوضوية.
طبعا سيقول قائل ان تشبيه الجامعات الخاصة بالانتصاب الفوضوي هو تجنّ على اعتبار ان هذه المؤسسات تخضع لكراريس شروط دقيقة و معايير متطلّبة، و لكن نعلم جميعا أنّ ليس كلّ ما على الورق تجده على ارض الواقع، و ان الكثير من اصحاب هاته المؤسسات مستعدّ لتوفير اللازم عند الحصول على الرّخصة، و من ثمّ التّخلّي عنه بعد انطلاق السّنة و هو يعرف أنّ احدا لن يغلق المؤسسة في وسط السنة..
الطلبة نفسهم مساهمون في هذا التّردّي، على أساس ان -وهذه هي الطّامّة الكبرى اللي يعاني منها تعليمنا العامّ قبل الخاصّ، من أقسامه الابتدائيّة و حتّى النهائيّة- المهمّ ليس العلم بقدر الشّهادة، ليس المهمّ التّكوين الحقيقيّ بقدر الأعداد المتحصّل عليها.
للأسف، سيرضى الكثيرون ان يدرسوا في جامعات بشهائد مضمونة على المخاطرة في جامعات تقدّم تكوينا أفضل، لكن مع عمليّة تقييم حقيقيّة و جدّيّة!
في النّهاية، المسألة بسيطة، ما يحتاجه التّعليم العالي الخاصّ هو مزيد من التّنظيم و المراقبة، مع آليّات فعّالة لفرض المستوى، ثمّ غربال يؤكّد أنّ المنتوج مطابق للمواصفات المنتظرة قبل ان يقع إطلاقه في السّوق: Contrôle Qualité ، تماماً كما تفعل اي مؤسسة تقدّم منتوجا حسّاساً.
مثلا، و تماماً كما وجدت البكالوريا كامتحان وطني تأهيلي، وجب على الجميع خوضه قبل المرور الى الجامعة، ما الغضض في ان يمرّ طلبة المدارس الخاصّة بامتحانات تأهيليّة وطنيّة تمكّن من تحقيق المستوى و البرهنة على أهليّة الطّالب (امام الدّولة و المجتمع) للامكانيّات التي تتطلّبها الشّهادة التي سينالها؟ أمّا ان يمرّ الطّلبة دون غربال عملي و حقيقي، ليس هناك ما يضمن الّا تتراخى القيود و الحواجز -ان لم يكن في كلّ المعاهد الخاصّة، ففي جزء منها- تدريجيّاً حتّى تصبح الشهادات سوق و دلّال .
لا اعتقد ان نقابة الاطبّاء مثلا تسمح بان يدخل الرّعواني الى مهنة الطّبّ. ربّما يكون هذا دليلا ان الامر ليس بالتّنظيم الذي يدّعيه البعض. و أكيد ان التونسي نفسه، ليس مستعدّاً لاستشارة طبيب ان لم يكن على ثقة تامّة بامكانيّاته أو بمدى تمكّنه من علمه... كيف نسمح اذا ان يدخل الرّعواني ، و ان كان بنسبة واحد للألف، الى مهن اخرى لا تقلّ حساسيّة او اهمّيّة؟ هل ان عمل المهندس أقلّ خطرا على الأفراد و المجتمع من الطبيب؟ الا توضع أرواح ناس على المحكّ عند بناء جسر او نفق او طريق، او عند إدارة معمل او وحدة صناعيّة؟
قلت آنفا انني اعلم حتما ان مثل هذا الكلام لن يعجب الكثيرين، فمنهم من يملك او يدير جامعة خاصّة، و منهم من درس أو يدرس او يعيل من يدرس في مؤسسة حاصّة... و لكن مهمّ جدّاً ان يكون هؤلاء بالذّات، أوّل الواعين بخطورة الفوضى اللي يعاني منها هذا القطاع، و أن يكونوا مدركين لما سيترّتب عن هذه الاستهتار بقيمة الشّهادات الجامعيّة من ضرر حتميّ سيلحق بهم، و لو بعد حين.
لا أقول أنّ كلّ من يزاول تعليمه في المدارس خاصّة هو من مستوى منقوص، بتاتا. شخصيّاً درّست في جامعة خاصّة من أعرق ما في القطاع، و عاينت بين الطّلبة الذين عملت معهم من أبهرني بقيمته و مستواه، و كذلك شهدت ان هنالك من نال شهادة لا يستحقّها، و هو لم يكن لينالها بأيّ حال من الأحوال لو كان هناك غربال يفرز. و الواقع، و هو المشكل الحقيقي الذي يجب أن نقف عنده، أنّ هذا الشّخص هو اليوم حامل لشهادة مهمّة، اختلط بالمجتمع الذي استوعبه بشهادته، و هو يشغر اليوم وظيفة على قدر كبير من الحساسيّة.
انا فقط أقول انه طالما أنّ الجامعة الخاصّة تدار على انها مؤسسة ربحيّة، فأكيد أنّها، آجلا او عاجلا، كثيراً او قليلا، ستعمل على تحقيق قدر اكبر من الأرباح، اكثر من أداءها لرسالة.
عندي صديق لي، مهندس مدنيّ متخرّج من جامعة خاصّة، لكن من مونتريال بكندا... يحمل في إصبعه -منذ ان عرفته- خاتما من معدن رخيص. سألته يوما عن قصّة هذا الخاتم فأجاب: اشتريته بأكثر من 200 دولار، و هو مفروض علينا ان نقتنيه في الجامعة، مباشرة بعد إنهاء الدّروس و قبل ان نتسلّم شهائدنا... هذا الخاتم مصنوع من حديد كان يشكّل هيكل جسر كان قائما بأطراف المدينة، سقط في العشرينات من القرن الماضي و تسبب في مقتل العشرات.
اشترت الجامعة الحديد الذي رفعوه من انقاض هذا الجسر، و منذ ذلك الحين، على كلّ مهندس متخرّج ان يلبس الخاتم طول حياته حتى يذكّره مع كل مرّة يمسك فيها قلماً، او يمضي على ورقة، أن حياة النّاس أمانة في رقبته، و انها رهينة ان يؤدي عمله بمهنيّة و كفاءة!
اذا السّؤال واضح، و موجّه للجميع: هل نريد ان نتقدّم بهذه البلاد او لا؟ هل لنا على الأقل ان نترك فرصة للمستقبل حتى يكون أحسن؟ ام اننا سنصرّ على مواصلة عمليّة النهش، كبارا و صغارا، جشعا او أنانية او تهاونها، حتى نقضي بذلك على أيّ أمل لنا كي ننهض من جديد؟
على الأقلّ دعونا لا نعيث في كلّ شيء و لا نعبث بكلّ شيء. اذا أردنا ان نحمي المستقبل فكفى عبثا...
Comments
14 de 14 commentaires pour l'article 110628