المسلمون والفهم الضبابي للواقع

<img src=http://www.babnet.net/images/1b/hammar2015.jpg width=100 align=left border=0>


محمد الحمّار

كان دوما بودّي أن أعرف لماذا فشل المسلمون كلما أرادوا أن يطبقوا الإسلام، وذلك بالرغم من أنهم - افتراضا وحسب ما ذهب إليه مالك بن نبي وأوافقه فيه - مقتنعون بالإسلام. وانطلاقا من أنّ هذا التقصير مأتاه المسلمون لا الإسلام، ما زال بودّي أن أكشف عما يجعلهم يخرجون عن كل القوانين والنظم. أم هل أنّ التشدد الديني الذي شهدته مجتمعاتنا طوال العقود الأخيرة وما آل إليه التشدد اليوم من دعشنة للصراع الحضاري ليس ضربا من ضروب المروق عن السنن والنواميس، السياسية منها والمجتمعية، المحلية منها والدولية ، بل الدنيوية منها والدينية؟ !

قبل أيام قمتُ بمراجعة حديثٍ للباحث والعالم الفيزيائي الأمريكي ماكس تاغمارك Max TegmarK ، الأستاذ بجامعة ماساتشوستس M.I.T الأمريكية (نشر بمجلة البحث La Recherche الفرنسية، العدد 489، جويلية/أوت 2014، ص 24). يتناول الحديث مسألة الواقع وتعريفاته. ففي معرض شرحه للموضوع يؤكد الأستاذ تاغمارك أنّ الواقع ليس كما نراه، ثم يقسّمه إلى أصناف ثلاثة: الصنف الأول هو الواقع الموضوعي/ الرياضي وهو الذي يتم كشف النقاب عنه بواسطة معادلات حسابية، وهو أجود الأصناف لأنه الأقرب إلى الحقيقة. والصنف الثاني هو الواقع الذاتي أي ذاك الذي يتحدد حسب ما يراه المرء/المجموعة وذلك بواسطة الحس و التخمين والحدس. أما الصنف الثالث فهو الواقع التوافقي أي ذاك الذي يتحدد بفضل التشارك بين الحدس والعلم (علمَي الرياضيات والفيزياء على الأخص).



أتوقف في هذا المستوى لأعود إلى مسألة تطبيق الإسلام، وألاحظ ما يلي في ضوء تقسيم ماكس تاغمارك : ما هو معروف عن الدين أنه سابق للعلم، وهو الوضع الذي يعبر عنه باللغة الأجنبية بـ prescience، مما يعني أنّ الدين يعطي عبر النص القرآني والسنّة النبوية الخطوطَ - الكبرى وأحيانا حتى الصغرى- للحقيقة أي لـ الواقع الذي يفضله الله تعالى والذي يحث سبحانُه المسلمين على أن يرتقوا بأنفسهم إليه. وما من شك في أنّ جانبا كبيرا من هذا الواقع المنشود هو من الصنف الموضوعي/الرياضي الذي يصفه الباحث الأمريكي.
بحديث مختلف، يتبين لدينا أنّ أصناف الواقع التاغماركية الثلاثة ليست غريبة عن الإسلام. فالصنف الأول منها (المثالي) قد تم التنصيص عليه من لدُن خبير عليم على أنه واقع يتوقف إنجازه على العقلانية و علم العالِمين وذلك كما جاء في قوله تعالى وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (العنكبوت: 43). ولئن كان الصنف الثالث (التوافقي) بطبيعته خليطا بين الأول والثاني فإنّ هذا الأخير (الذاتي) من النمط المنصوص عليه في مُحكم التنزيل: قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (غافر: 29).
يتضح لدينا إذن أنّ أصناف الواقع الثلاثة هي مما ينبغي اعتباره بصفة كلية مساحات يتوجب الكشف عن سابقية الدين على العلم من خلالها، لا للتباهي أو الغرور وإنما لتوظيف الوسائل العلمية التي كانت في بادئ الأمر موظَّفة في اكتشاف تلك السابقية، توظيفها هذه المرة في تطوير الواقع حتى يقترب من المثل الأعلى (الواقع الموضوعي/ الرياضي) الذي هو في الآن ذاته قبليّ للعلم (متضمنٌ في النص الديني) وعلميّ (بمقاييس النظرية التاغماركية، من بين نظريات عديدة أخرى).
أما التساؤل الذي يفرض نفسه في هذا المستوى فهو الآتي: هل أنّ المسلمين كافة قادرون على أن يخوضوا في عمليةِ تحديدِ الواقع المنشود؟ وهل أنّ قراءة القرآن وإتباع سنة رسوله وحدهما كافيان كي يَعلم المسلم ماهيةَ الواقع المنشود، والحال أن العلم يثبت أنّ تحديد مواصفات الواقع مسألة علمية فضلا عن أنّ للدينِ مزيةُ السبق والشمولية إزاءها؟
للإجابة، أعتقد أنّ ثمة فرضيتان اثنتان- دائما حسب ما يوحي به إلينا منهج ماكس تاغمارك: إما أنّه على المسلم أن يُؤوّل النص والسنّة بمفرده أو بمعية سائر المسلمين وبالتشارك معهم - مثلما ينبغي أن يكون الشأن في مجتمعٍ مسلم يزدهر فيه الاجتهاد الفقهي- لكن بدون اعتماد المناهج العلمية المعاصرة وبدون محاولة فهم الواقع الموضوعي/الرياضي لكي يبلغ المسلم واقعا توافقيا ؛ وإما أن يعمد المسلم في الآن ذاته إلى استخدام أدوات البحث العلمية مثل تلك التي يقترحها ماكس تاغمارك من جهة والأدوات المتعارفة التي تخوّل له فهم الواقع الموضوعي/الرياضي من جهة وفهم النص الديني من جهة ثانية، وذلك بشكل يمَكنه من أن يَدنوَ قدر المستطاع من هذا الواقع المثالي.
لا شك، حسب اعتقادي، أنّ المنهجية الثانية هي الصحيحة. والدليل على صحتها أنها غائبة غيابا شبهَ تامّ عن مشهد الاجتهاد وعن مشهد الواقع و عن حياة المسلمين اليوم. والدليل أيضا هو أنّ المجتمعات المسلمة ما زالت تعاني من تداعيات هذا العوز المنهجي. ومن المؤشرات على ذلك بقاءُ مسألة التوافق بين الإسلام ومتطلبات العصر قضيةً قديمة/جديدة قائمة الذات. ولعل أن يكون التخلف الذي لا يزال المسلمون يعانون منه هو السبب في غياب مثل هذا المنهج العلمي (بالإضافة إلى كونه نتيجة له).
بكلام آخر، الذي يفعله المسلمون اليوم في باب التديّن وحياة التفكير لا يتجاوز فعلَ قراءة القرآن - إن قرءوه- والاقتداء بالسنة الشريفة - شكلا- مع القيام بالمناسك . فهُم لا يفكرون بشكل علمي في الكون وفي الطبيعة وفي الإنسان، أي حتى ولو أنهم درسوا العلوم فإنّ المعارف التي تحصل لديهم كنتيجة لذلك لا تحظى بتوظيفهم لها من أجل فهم الواقع، ناهيك أن تحظى بتوظيفهم لها لمزيد فهم الدين وفتح باب الاجتهاد. لقد غلبت الضبابية على طرائق تفكيرهم حتى أنّ مخرجات فكرهم (داعش نموذجا) تكاد تكون هوليودية.
في المحصلة، إنّ المسلمين لا يواكبون الواقع. لا يواكبونه، لا مثلما يريده العلم ولا مثلما يريده الدين، بينما بات من البيّن أنّ الفهم العلمي للواقع يؤدي إلى الفهم الديني، والعكس جائز أيضا. وبقدرِ ما يحرص المسلمون على تجنب المنهج العلمي، ما يقعون في التفكير السحري. لذا فبقدرِ ما يشددون في المستقبل على تحويل هذا الامتناع إلى انغماسٍ في عالم الاكتشاف، اكتشاف السنن والقوانين والأنظمة من خلال عوالم الإنسان والطبيعة والكون، ما يضمنون الفهم الأفضل للدين وللدنيا معا.


Comments


11 de 11 commentaires pour l'article 108529

MOUSALIM  (Tunisia)  |Lundi 13 Juillet 2015 à 01:23           
على الكاتب أن لا ينسى بأن المسلمين هم رواد العلم لقرون بل هم منبع الحضارة الصناعية الحديثة وتخلفهم اليوم هو متعمد من الغرب الذي نهب كل المعارف الاسلامية في الحروب الصليبية ويواصل حرق المكتبات في عصرنا الحالي في الحرب الأمريكية العراقية .

MOUSALIM  (Tunisia)  |Lundi 13 Juillet 2015 à 01:07           
مقال رمضاني جميل للكاتب فالمسلمون الذين يعايشون الواقع بفهم ضبابي يعني أنهم سجناء العالم السفلي بمعنى دماغ البطن بعيدا عن العالم العلوي دماغ الجمجمة ولا حتى دماغ القلب مكمن آدم الذي يوازن بين العالم لعلوي والعالم السفلي وينفرد بخاصية التأقلم مع الأوضاع والأحداث أكثر من اعتماده على الذكاء أو القوة للبقاء على قيد الحياة على سطح كوكبنا .

Incuore  (Tunisia)  |Vendredi 10 Juillet 2015 à 16:03 | Par           
Mhg-_BN تبارك الله عليك مسكف لم تفهم ما كتب فأتيتنا بخرافة مراجعك و اكاذيبهم و تعتبر بجهلك ان الاحكام المطلقة من مثل منذ كذا تعبر من هذا المؤرخ الاحمق الذي يكتب بهذه الطريقة الخرقاء البهاة داء يصعب نزعه انستك بها

Mhg_BN  (Tunisia)  |Vendredi 10 Juillet 2015 à 14:28           
La décadence de l'Islam a commencé dès le décès de notre prophète.
La guerre de succession a amené son lot d'assassinats et depuis le sang arabo-musulman n'a cessé de couler jusqu'à aujourd'hui.
Le Yémen, Da3ech, etc. sont des créatures de la guerre larvée entre l'Arabie Saoudite et son obscurantisme wahhabite et l'Iran chiite et son amour pour la Science.
Entre-temps les autres pays qui ont mis à côté leurs guerres de religions (catholiques, protestants, orthodoxes, anglicans, calvinistes, luthériens, etc.) se sont développés en qualité de vie et en technologie
Brabbi, dites-moi quelle découverte scientifique nouvelle pourrions-nous la mettre au profit de notre nation ? Rien, rien et rien.
Le jour où le pétrole s'épuisera on broutera de l'herbe et ce sera l'esclavagisme qui nous attend pour survivre.

Incuore  (Tunisia)  |Vendredi 10 Juillet 2015 à 12:22 | Par           
Tegmark يستعيد La théorie des idées nombres كما فهم ارسطو افلاطون او استعاد غاليلي كتاب العالم كتب من احرف رياضية .القول بأن الواقع العلمي يقوم على الملاحظة يمثل جهلا و مقابلته بالواقع الديني يمثل جهلا فلعل عدم امكانية اختزال الواقعي للرياضي هي التي جعلت الكاتب يستعيد و إن بنوع من الاختلاف العوالم الثلاث لبوبر .ان البحث في الواقع يتطلب تحديد انماط الوجود لتأسيس انطولوجيا جديدة ان تكون واقعي يا للسريالية كما يقول موران

Mandhouj  (France)  |Vendredi 10 Juillet 2015 à 09:40           

http://alislahmag.com/revue_86.pdf

http://alislahmag.com/livre_4.pdf

Antisalafy  (Tunisia)  |Vendredi 10 Juillet 2015 à 09:17           
La différence entre la conception religieuse du monde et la conception scientifique , est la méme entre la légende et la science. la premiére se base sur des histoires surréelles qui ne peuvent pas étre vérifiables , les miracles. tandis-que la pensée scientifique commence par l'observation des phénoménes puis passe à l'examen sur de différentes essaies pour aboutir à une conclusion qui sera la formule ou régle de fonctionnement. Et c'est
bien là que les occidentaux ont investis leurs efforts intellectuels et financiéres , tandis-que les Arabes qui ont traduit les connaissances des civilisations anciennes, ont rejetés ce colossal patrimoine pour ne s'attacher qu'à la légende, pour sa simplicité et sa globalité , mais surtout qu'elle procure au gouverneur de maitriser la masse et consolider son autorité.

Njimabd  (Tunisia)  |Vendredi 10 Juillet 2015 à 08:59           
المشكلة ليست في الإسلام فالإسلام دين متكامل و فيه حل لكل المشاكل الإقتصادية و الإجتماعية والتربوية و التنموية و عيرها و لكن المشكل في المسلمين الذين فهموا الإسلام خطأ أو الذين وقعوا في كمين أعداء الإسلام الذي وضع لهم فتفرقوا و صاروا شيعا يحارب بعضهم البعض و كل واحد يظنّ أنّه يملك الحقيقة المطلقة

AMDMED  ()  |Vendredi 10 Juillet 2015 à 08:22           
مشكلة ضبابية الواقع عند المسلمين هو أن الواقع قد سبق المسلمين ب300 سنة أو أكثر
و هذا التأخّر و التخلّف للمسلمين عن الواقع المعيش يجعل مكان التلاقي بينهما شديد الصعوبة و ربما مستحيلا في بعض الأحيان

Tahrir  (Tunisia)  |Vendredi 10 Juillet 2015 à 07:08 | Par           
حقيقة عنوان المقال لا يتطابق ومحتواه . تضمن المقال تقسيما للواقع الي ثلاثي أصناف حسب ما ورد في دراسة لاحد الباحثين الأمريكيين منه العلمي والداني والداني الموضوعي غير ان الكاتب لم يعرف لنا الواقع ، فما معني واقع ؟ ماهي آليات البحث في هذا الواقع هل يتم البحث فيه لفهمه بواسطة العقل أما بواسطة العلم ؟ والكاتب هنا يعطي الأولوية للبحث العلمي علي حساب البحث العقلي والذي يسميه الديني لكن كان عليه ان يشرح الفرق بين عملية التفكير العقلي وعملية التفكير العلمي ؟ ولكن الكاتب نفسه الذي يدعو المسلمين الي اعتماد منهج واضح لفهم الواقع وتطويع الاسلام لمواكبة التحولات التي تحدث في العالم لا يمتلك منهج تفكير وآلية تحليل مستنيرة .

Antar Ben Salah  (France)  |Vendredi 10 Juillet 2015 à 02:00 | Par           
La seule chance pour s'en sortir des griffes des politiciens habituels qui pillent le pays et appauvris les citoyens , c'est d'avoir les partis politiques a tendance islamiques . L'extrême gauche est un allié des corrompus et les dictateurs bourreaux du peuple .


babnet
All Radio in One    
*.*.*
Arabic Female