رسائل دمشق الشهيدة

بقلم حامد الماطري
كان ابني يلعب مع طفلين من اقرانه بينما كنا نستمتع بصوت المياه ترتطم على رصيف الميناء، و بمنظر القباب و المآذن التي تزدحم بها تلال اسطنبول القديمة...
استوقفتني فجأة كلمات نادى بها الرجل الجالس قربي أولاده. جعلني مظهر زوجته و لباسها المتحرّر أعتقد في البداية أنّهم أتراك، لكن تبيّن أنّهم من سوريا...
عشت جزءاً طويلا من طفولتي في سوريا، ترعرعت هناك و هي بالنّسبة إليّ بمثابة بلدي الثّاني.
وجدتني بعد تردد أفاتح الرّجل الحديث.. سألني عن تونس، قلت له أنها بخير، نعيش بعض الصّعوبات الاقتصاديّة و نحاول أن نتعامل مع الإرهاب كظاهرة جديدة علينا، و لكن الأمور في مجملها بخير، و أن كان الإعلام يضخم الأمور أحياناً...
سألني عن رأيي في ما يحدث في سوريا، و إن كان الاعلام ينفخ في الأخبار التي يطلقها، قلت له لا شكّ أن الكثير صحيح، و لا بدّ من بعض المبالغات أو المزايدات لصالح هذا الطّرف أو ذاك... أجابني قائلاً: كل ما تراه و ما تسمعه لا يغدو أن يكون جزءاً بسيطاً جدّاً مما يحدث حقّاً على أرض الواقع... هل تتصوّر أن النّاس في غوطة الشّام، تموت النّاس جوعاً، أنّهم يأكلون العشب و الحشرات من فرط الجوع بسبب الحصار المفروض عليهم؟
صعقت لمثل هذه الإجابة، الغوطة هي لدمشق بمثابة مرناق بالنّسبة لتونس العاصمة، و لكنها أكثر نضارة، يخترقها نهر و قنوات و كلها بساتين فواكه و خيرات من كل الأصناف...
تبادلنا أطراف الحديث، و ما إن قلت له أنني عشت صغري في الشّام و أنّني أعرفها جيّداً، انسال كمن يحمل همّاً عظيماً على صدره و وجد أخيراً من يفرغ له بما في صدره...
قال لي أنّه من منطقة جوبر المحاذية لدمشق و هي تعرف بأنّها إحدى معاقل الثورة السورية منذ بداياتها.
أشار إلى ولدي و قال لي: منذ حين أنظر إلى ابنك و هو يلعب مع أولادي... بشعره الأصفر و حيويّته، ذكّرني بابن صديق لي. هو جاري و ابن عمّي، اعتقلنا سويّاً في مارس 2011 بعد أن شاركنا معاً في مظاهرات شعبية انطلقت وقتها مناديةً بتحقيق انفتاح في الحرّيّات... كنت أعمل أستاذاً حتّى ذلك التّاريخ... قضّيت سنتين في المعتقلات و أفرج عنّي في مايو 2013 بعد أن خسرت 38 كيلو من وزني... و لكنّنا لا زلنا لا نعرف شيئاً عن ابن عمّي، و أغلب الظّنّ أنّه قد توفّي أو قتل في المعتقل .
حاولت أن أعرف منه شيئاً عن المعتقلات و لكنّه بدا جليّاً أنّه لا يريد التّطرّق من قريب أو بعيد لما رآه أو عاشه في معتقلات النظام.
حكى لي كيف كانوا 13 صبيّاً بين إخوة، جيران و أبناء عمّ، كيف كبروا سويّاً و درسوا سويّاً و عاشوا سويّاً.. كيف زوّجوا بعضهم البعض و رقصوا سويّاً في أفراح بعضهم البعض... قال لي، من بين هؤلاء، لم يبق منّا غير ثلاثة.. مات الباقون، و خلّفوا وراءهم أيتاماً و أرامل لم يكونوا يتوقّعون ما حاق بهم و لو في أحلك كوابيسهم.
حكى لي كيف قرّر و زوجته أن يتركا البلاد. قال لي أن الرّحلة إلى الحدود التّركيّة محفوفة بالمخاطر، و أنّ فرص الموت على الطّريق هي أكثر من فرص النّجاة. قال لي أنّ المعابر الأمنيّة التي يقيمها النّظام هنا و هناك، لا تتردّد في القتل على الهويّة، إذا كنت أصيل منطقة تعرف بمساندتها للثّورة...
و حتّى من يختار أن ينأى بنفسك عمّا يحدث في البلاد، فلن يستطيع ذلك، إذ أنّ النّظام يفرض على جميع العائلات تسخير شبابها و رجالها (من 17 إلى 45 سنة) في القتال حتّى تثبت ولاءها له، و كثيراً ما يأتي خبر مقتلهم أسابيع قليلة بعد تعبئتهم. فيهم من يقتل على يد أعداء النّظام على أنواعهم، و كثيرون يقتلون على يد الجيش نفسه لو أنّهم أظهروا شيئاً من التّردّد في ضرب المدنيّين، على أساس أنّ هؤلاء هم من ينشقّون عن الجيش و يلتحقون بالجيش الحرّ.
روى لي كيف أنّه من عائلة ميسورة الحال نسبيّاً، و أنّ والده كان يمتلك مصنعاً للملابس الجاهزة... ذهب كلّ شيء في غضون أشهر، و ما نجى من الدّمار أصبح خارج الخدمة... قال لي: تدمّر بيتنا تحت القصف... من حيّ كامل، عمارات و فيلات، لم تتبقّى منها غرفة واحدة تصلح للسّكنى. خرجنا بما نحمله من ملابس و تركنا كل حياتنا وراءنا، تحت الأنقاض... صوري، طفولتي، ألعاب الصّغر، شهادات الاستحسان التي نلتها في المدرسة، ذكريات العائلة، ورثتها عن أجدادي، صمدت عقوداً قبل أن تذهب غباراً في لحظات ّ.
قال: سبعة أشهر قضّيناها، أنا و زوجتي و طفليّ (3 و 5 سنوات) على الطّريق بين دمشق و الحدود التركيّة (هي تقريباً المسافة بين تونس و قابس). سبعة أشهر بتنا فيها ليال في العراء، و اختبأنا لأيّام في حجرة تحت الأرض، و شققنا حقول ألغام و فيافي موحشة... كنّا نسير في اللّيل و نختبئ في النّهار، يسلّمنا مهرّب إلى آخر، و الكلّ يقبض بالدّولار... جعنا و عطشنا و خفنا و بكينا و عرفنا كلّ المحن، حتّى أنني لا أصدّق كيف صمدنا أمام كلّ ما رأيناه، و كيف أنّني جالس الآن أتحدّث إليك و عائلتي أمامي مكتملة.
لم تعد المسألة مقترنة بنظام أو بمعارضة، بمنطقة دون غيرها... لم تخلو أيّ أسرة سوريّة من الجروح. المآسي ضربت الجميع، بلا استثناء، أنصار النّظام و أنصار الثّورة، بل و حتّى من هم ليس لهم في الصّراع ناقة أو جمل... زد على ذلك استقدام المقاتلين من الخارج حتّى يزيدوا اثخاناً في الجرح السّوريّ الغائر...

سألته عن داعش، قال أنّها لا تختلف عن غيرها من الفصائل، أنّ الجميع يقوم بفظائع لا توصف، الفرق أنّ داعش تتباهى بما تفعله و تروّج له. و استغربت كثيراً لمّا قال لي أيضاً أنّ قيام داعش في العراق استقبله السّوريين بشيء من الارتياح في البداية، اذ أنّه خفّف من دعم عراق نوري المالكي لقوى النّظام، و من عبور المقاتلين العراقيّين الشّيعة للحدود من أجل القتال في سوريّة...
تلك المشاهد التي أضحت ركناً قارّاً في نشرات الأنباء، هي لا تقدر على نقل الحجم الحقيقي لمعاناة أهل الشّام اليوميّة... و ما يؤلم أكثر، هو كيف تخلّى عنّا الجميع، نحن من حملنا شواغل العرب لعقود و فتحنا أبوابنا لهم جميعاً ... قال لي: أنت تعرف السّوريّ، هو جدّي و مثابر، شغّيل ... و نحن قادرون على على تجاوز المحنة، أو على الأقلّ التّخفيف من وطأتها. لا نطلب عوناً، و لكننا لا نجد حتّى من يعطينا الفرصة كي نخرج من الجحيم و نعيش... أغلقوا أمامنا الحدود، و صار السّوريّ يطرد و يهان على الملأ... صاروا ينظرون لنا بطرف العين... بناتنا تباع و تشترى، و طمع فينا الجميع...
ثمّ استطرد بنبرة متفائلة لم أفهم كيف استجلبها: تركيا هي الوحيدة التي تستقبلنا، و من ثمّ، تكون مسألة فرص و ثبات، و أنا مثلاً، اجتزت الحدود منذ قرابة السّنة و لا أحمل فوقي ألف دولار، و لكنّني و الحمد لله استطعت أن أسلك طريقي و أوفّر لي و لعائلتي عيشة كريمة .
حلّ الغروب فاستأذنني محدّثي بالرّحيل، و أخجلني إذ أصرّ على دفع حساب طاولتي. دعينا سويّاً بالخلاص و بالفرج لأهل الشّام قبل أن ينصرف. غادرت المكان و قلبي ينزف ألماً... أنظر الى ابني و هو يمشي ببراءة و دون اكتراث، و أتساءل عن مصير شبيهه في دمشق، يتيم الأب، في العراء و الجوع و الخوف، تخيّم عليه أهوال الحرب من كلّ جانب...

على طريق العودة إلى النّزل مررنا بامرأة ارتكنت زاوية لها و لأولادها في ظلام الشارع. كان البرد قارساً و كان أحد أولادها يتّكأ إلى الحائط برقبة عارية تلسعها النّسمات الباردة بينما كانت الأمّ منشغلة برضاعة أخيه الأصغر..
تألّمت زوجتي لهذا المنظر، رأيت الدّمعة تتلألأ في مقلتها قبل أن تنزع وشاحاً كانت تلبسه و تنحني كي تلف به الطّفل المسكين. خاطبت المرأة بالعربيّة فأجابتها بلهجة شاميّة، سألتها عن أمرها فأجابتها أنّها كانت تسكن مع أقرباء لها حتّى أيام قليلة و لكنّهم لم يقدروا على دفع الكراء فأطردوا جميعاً و تفرّقوا بين الطّرقات. أعطتها نزراً قليلاً تساعد به نفسها، و همّت كي نمضي و اذا باثنين من السّياح الرّوس المارّين استوقفونا و رائحة السّكر تفوح منهما، خاطبونا بانجليزيّة ركيكة و هم على الأغلب يعتقدون أنّنا من الأوروبيين، قالوا لنا بشيء من الاستنكار: لماذا تساعدونها؟ إنّها سوريّة... انّهم يملؤون الشّوارع، متسوّلون و متشرّدون قذرون...
هذه ليست قصصاً دراميّة، هذا وقائع حقيقيّة و إن كانت أكثر ايلاماً و تراجيديّة من أكثر النّصوص حزناً...
بحثت طويلا في كل ما درست و ما قرأت، ما يحدث للسوريين اليوم يفوق ما عرفه أي من الشعوب، يفوق نكبة الفلسطينيين و مآسي ساراييفو و سربرينيتشا... تفوق حتى الدمار الذي عرفته ألمانيا بعظ هزيمتها فب الحرب العالمية. لم يحدث قط أن يقع تدمير بلد بمثل هذه الحضارة بمثل هذا العنف، و أن يشوّه مستقبله بقدر ما تتقد النيران بكل مكوّنات حاضره.
لقد أسيء للثورة السورية بشكل كبير، من الدّاخل و من الخارج، بل و حتّى ممّن يتّخذون الثّورة و حقّ الشّعوب في الحرّيّة و الانعتاق شعاراً لهم.
الجيش الحرّ الذي كان يحاول حماية المدنيّين من هجمة النّظام الشرسة، بحسّ انساني قبل أن يكون وطنيّا، لم يجد دعماً من أحد.. ربّما لأن القوى الإقليميةعرفت سريعاً أنه لن يكون لعبة في يد أحد، أنّه يختلف عن الليبيين و العراقيين، و أنه لن يقبل بمساومة أيّ من مبادئه مقابل دعم عسكري. و اليوم أضحى هذا الجيش الحرّ مستضعفاً، طريداً للنّظام، كما للمجموعات الإرهابيّة...
كثيرون يدافعون عن نظام الأسد من دون أن يفكروا، ولو للحظة، في ما يقترفه من جرائم...
لا شك في أن النظام في سوريا تحاك ضدّه مؤامرة اختلطت فيها الأيدي، و استقدم كل من اللاعبين الدوليين و الإقليميين محسوبيهم حتّى أضحت أرض الشام ساحة حرب تتصارع فيها القوى... بينما استحال الشعب كعشب الأرض تتداوسه الأقدام العمياء، لا تعرف أين تطأ، و ماذا ترفس، و لا تعي شيئاً مما تخلّفه ورائها من خراب...
من الاجحاف ألا نعترف بهذا، و لكن من الظلم الأعظم أيضا أن يصبح النّظام السّوري، صاحب الحصّة الأكبر من عمليّات القتل و التّخريب، ضحيّة أو بطلاً... أو حتى أن نستجدي له الأعذار لجرائمه.
طبعاً، ليس ما يفعله الدّواعش هناك بأقلّ ممّا سبق في شيء... هؤلاء حوّلوا الإسلام إلى خرقة سوداء و انطلقوا يجرمون في حق هذه الأرض و حق شعبها، و يستبقون كلّ جريمة بقول الله أكبر .
كم يؤلمني أيضاً أن أرى أنّ شباب تونس يسافرون جهلاً إلى هناك، فيكونون إمّا حطباً يحترق سريعاً في نار هذه المحرقة، أو يتفوّقون في الإجرام و يتفنّنون فيه، حتّى يصبحوا أمراءً و قادةً على فيالق القتلة. كم كنت أستحي وأنا أقول أنّني من تونس، كم كنت أستحي و أنا أعرف أن كثيرين من بني وطني، من ضحايا الجهل الذي هو أمّ التّطرّف، أيديهم مخضّبة بدماء الأبرياء هناك و بأعراض شريفاتهم... بينما لا يزال الجدال الأخرق في تونس متواصلاً حول قطع العلاقات مع سوريا و المزايدات السّياسيّة حول صحّة هذا القرار من عدمها.
الأرض السورية البكر، والشعب الذي تشبع عبر الاف السنين بلفيف الحضارات التي مرت على أرضه... الشّعب الذي قيل فيه أنّ على كل إنسان متمدن في العالم أن يقول إن لديه وطنان ، وطنه الذي يعيش فيه.. وسوريا ... اليوم يذبح السوريون الأبرياء على الطرقات، و تهدم بيوتهم فوق رؤوسهم، ويسرق ما لم يدمّر من معاملهم و دكاكينهم و منشآتهم...
أطفال سوريا سيكبرون في عالم مختلف عن ذاك الذي سيعي عليه باقي أطفال الأرض... سيحتاجون عقوداً قبل أن يستطيعوا أن يحلموا من جديد... سيكبرون و هم يعتقدون أنّ مصاصي الدماء حقيقة لا خيال.
لقد تعقّد المشهد السّوري بشكل لم تعد تستطيع معه أن تقف في أيّ صفّ غير صفّ الأمّ الثكلى و اليتامى الهائمين من غير أفق... بل أنّ مع كلّ ما يحدث، لم يعد كلّ هذا مهمّاً... لا أعتقد أنّ هناك سوريّ ما زال يدعو ربّه أن يبلغه النّصر... لا يمكن أن يكون هناك نصر في مثل هذه الحرب المجنونة.
ليس جبناً ولا ضعفاً، و حتماً ليست بالخيانة. هي فقط رحمة بهذا البلد و بشعبه الذي اثقلّ كاهله بما عرف من هموم طوال هذه السّنوات الأربع...
ربّي.. رحماك... لم نعد نطلب النّصر، لا نطلب إلا الفرج...
Comments
3 de 3 commentaires pour l'article 105296