الإنسان ذلك المجهول بين الشرك المتجدّد والعقل المتبلّد

<img src=http://www.babnet.net/images/2b/5b35f9505f1285.20373222_kpmjqiflnheog.jpg width=100 align=left border=0>


منجي المازني
مهندس في المعلوماتية والبرمجيات



...

وأنا أتحسّس مكامن الدّاء عند الإنسان وأحاول البحث عن سبل الإصلاح والعلاج المناسب،لم أجد ما أبدّد به حيرتي غير استعارة عنوان لكتاب العالم الطبيب ألكسيس كاريل "الإنسان ذلك المجهول". فعلا هو مجهول ولا يزال مجهولا إلى اليوم. فبقدر ماهو مفتوح على البرمجة بكلّ أنواعها : اللّغوية والعصبية والنفسية والاجتماعية بقدر ماهو منغلق وعصي على الحل في ذات الوقت. فهو إذن جزء من المشكل وجزء من الحل في ذات الوقت. ذلك هو "الإنسان ذلك المجهول" بتعبير ألكسيس كاريل.

وللتدليل على صحّة ما ذهبت إليه، أسوق وأستشهد بمثال ممارسة الشرك الذي يتّفق الجميع على أنّه اعتقاد خاطئ وشيء قبيح ولا يليق بالإنسان الذي كرّمه الله وخلقه في أحسن تقويم أن يتسلّل إليه الشرك بأيّ حال من الأحوال ومن أي طريق كان. ولو سألنا إنسان العصر الحديث،من العرب والمسلمين،عن الشرك لذمّه ولقبّحه أيما قبح. ولاستغرب من تصرّفات إنسان الجاهلية الأولى ولاستهجنها أيّما استهجان. إذ كيف يمكن أن يشرك مع الله من لا حول له ولا قوّة. بل كيف يشرك مع الله من قام هو نفسه بنحته ! ولو جاء أحد من النّاس اليوم ودعا النّاس لعبادة الأصنام لاتّهم بالجنون ولأصبح بين ليلة وضحاها حديث الساعة وموضوعا لسخرية واستهزاء النّاس. ولكن برغم ذلك فقد يقدم إنسان القرن الواحد والعشرين على ممارسة سلوكيات لا تقلّ فضاعة وقبحا عمّا أتاه إنسان الجاهلية الأولى وذلك دون شعور منه أنه يقترف إثما عظيما يقترب من درجة الشرك.
خلال عطلة العيد أثار انتباهي عبارات فنّانة (كرونيكور في إحدى الفضائيات المحافظة) وهي تهنّئ الشعب بالعيد إذ تقول : "أهنئ الشعب بالعيد وأهنّئ والديّ وزوجي وأبنائي... وربّي يحيينا بخير... كما أشكر فلان الفلاني الذي أشرف على ماكياجي وفلان الفلاني الذي ألبسني الكسوة...". علما وأنّ هذه السلوكيات قد انتشرت في عديد الدول العربية وذلك منذ سنوات عديدة. ففي هذا الزّمان أصبح تزيين وجه المرأة والإشراف على ماكياجها والإشراف على اختيار ملابسها وإلباسها وإخراجها ترفل في فستان العيد أو حلّة العرس من طرف الرّجال عملا غير مذموم بل وأصبح محمودا ويفخرون به في المجالس الخاصّة والعامّة. وما تصريح هذه الفنّانة إلاّ دليل على ذلك. والسؤال المطروح : لماذا يستغرب القوم سلوكيات الشرك ويستنكرونها ولا يستنكرون ماهم فيه وعليه من تصرّفات تتماهى في قبحها مع قبح الشرك ؟

فالإنسان،كما هو معلوم، سريع الميل للشهوات سهل الانقياد لها والتعوّد عليها،قليل القدرة على التخلّص منها. سريع الخروج على الثوابت والقيم. ومن فرط التعوّد على السلوكيات الخاطئة في زمن الغفلة المصبوغة بلون ورائحة الاستبداد تتمكّن هذه السلوكيات المرضية منه وتتلبّسه وتعطّل مداركه وحواسّه وتحجب عنه الحقيقة، بل وتحلّ محلّها في ذهن الإنسان وتصبح هي الموجّه الأساسي دون وعي منه. وهذه الحالة أو الخلطة تشبه إلى حدّ ما خلطة الاسمنت والرمل والماء. حيث تبدو الخلطة في البداية سهلة، سهلة التطويع والتشكيل. يسهل التحكّم فيها وإخراجها وتشكيلها على أي وجه. ولكنّها بمرور بعض الوقت تصبح كتلة صلبة يصعب التحكّم فيها أو تليينها أو تكسيرها أو تفكيكها. وكذلك السلوكيات المرضية والخاطئة تنبع من الشهوات العابرة،يمكن التحكّم فيها في البداية، ولكنّها بمرور الوقت تصبح عادة ثمّ تتحوّل إلى فكرة ثمّ إلى مبادئ صلبة معشّشة في رأس الإنسان، تستعصي على محاولات تطويعها أو تكسيرها أواستئصالها. وتصبح ،مثلها مثل الورم السرطاني، هي مدار التوجيه والتقييم توجّه حاملها نحو الجمود والجحود. قال الله تعالى : " فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا" (59 مريم).
"إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ" ( العاديات)

والملفت للانتباه أنّ إنسان الجاهلية الأولى كما الثانية، إذا حلّت به الشهوات والمنكرات يعارضها باحتشام أو لا يكاد. ويسعى للتاقلم معها بكلّ الطرق. في حين أنّه سريعا ما يتصدّر لمعارضة الأنبياء ودعاة الإصلاح. والدّليل ما جاء في القرآن حول الأمم السابقة التي عارضت في أغلبها الأنبياء وتصدّت للدعوة من بدايتها إلى نهايتها. والسبب،في تقديري، يرجع إلى عنصرين اثنين : الغشاوة التي أصابت وعي هذا الإنسان من جرّاء الغفلة والنسيان واتباع الشهوات كما أسلفنا من جهة. ووجود الشرك أو الاستبداد أو بعضه أو بقاياه في حياة الإنسان من جهة أخرى. فالاستبداد الخارجي يتحوّل بالممارسة إلى لا شعور واستبداد داخلي وضغط نفسي وذهني يمنع عن الإنسان تصوّر نظرة استشرافية تحرّرية. بل ويحوّله إلى مدافع شرس عن المنظومة السّائدة، سواء كانت منظومة الشرك أو الاستبداد بصفة عامّة، وذلك من حيث يعلم أو لا يعلم. وقد كان الإنسان ولا يزال،في الأغلب الأعم،معارضا لدعوات الإصلاح متهما المصلحين في كل عصر ومصر بشتّى أنواع الاتهامات حيث ما كان الشرك أو الاستبداد قائما.

فرغم أنّ التونسي اليوم بات على مسافة 8 سنوات من الثورة ومن ممارسة التجربة الثورية والإصلاحية والديمقراطية، إلاّ أنّ الحصيلة لا يمكن وصفها إلاّ بالهزيلة. باعتبار أنّ أقل من 20 % قد شاركوا في الانتخابات البلدية(ماي 2018). وكان أقل من نصفهم ثوريين. وهو ما يعني أنّ أكثر من 90 % من الشعب لا يزال تائها ولا يزال غير مقتنع بدعوات الإصلاح. لأنّ الاستبداد أو بعضه لا يزال قائما. نفس النتيجة كانت على عهد بداية الدعوة المحمّدية : 13 سنة من الدعوة ومن الحوار ومقارعة الحجّة بالحجّة (مع نزول الوحي) لم تؤدّ إلاّ إلى إسلام بعض المئات من بين آلاف أو عشرات الآلاف من النّاس. (وأتجه إلى الظن أنه لو علم الله أنهم سيهتدون مع مرور الوقت لمدّد لهم في فترة الدعوة). ولكن متى دخل النّاس في دين الله أفواجا ؟ إنّهم دخلوا عندما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكّة وتغلّب على منظومة الشرك والاستبداد وكسّر الأصنام وقال لهم : "أيها الناس ما ترون أنّي فاعل بكم ؟" فقالوا له في انكسار : "أخ كريم وابن أخ كريم" فقال لهم : "اذهبوا فأنتم الطلقاء". عند ذلك سقط الشرك بالضربة القاضية ولم يعد له قيمة في حياة النّاس ولم يجد من يعيره أدنى اهتمام. ومادام الاستبداد لم يمت ولم يسقط بالضربة القاضية فسيظلّ يتلبّس على النّاس ويجري على سلوكهم وفي أقوالهم، كما الجنّ الذي يتلبّس المرضى من النّاس فينطقون بلسانه من حيث لا يعلمون. ذلك أنّهم دون شعور منهم يتحدثون بلغة الاستبداد وبلسانه.

وبلغة العصر أو لغة المعلوماتية فإنّ عقل الإنسان بات اليوم(كما في أغلب فترات التاريخ) معطّلا أو شبه معطّل وهو أشبه ما يكون بالحاسوب الذي أصابه فيروس ما فعطّل له كل البرمجيات الأساسية المحرّكة له. فلا بدّ إذا أردنا إرجاع الحاسوب إلى وضعه الطبيعي أن نبحث أوّلا عن البرنامج المناسب لإزالة هذا الفيروس(antivirus). بما يعني أنّ الواقع في حاجة أكيدة إلى البحث عن البرمجيات أو البرامج أو الخطط التي تزيل أغلب الفيروسات من قبيل الشرك والاستبداد وأغلب أمراض الإنسانية كمقدّمة لإتاحة الفرصة للإنسان لتقبّل دعوات الإصلاح على أسس صحيحة.

ولنا في السنّة النبوية ما يؤكّد هذه المقاربة الإصلاحية ذلك أنّ القراءة للسيرة النبوية توضّح لنا دون عناء أنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم طالما بحث طيلة فترة الدعوة (قبل الهجرة) عن بيئة سليمة خالية من الأمراض والفيروسات تكون مركزا ومنطلقا للدعوة. فبعث بدئيا برسائل إلى أغلب القبائل العربية وعرض عليهم الأمر في موسم الحج. وأخير التقى بالأنصار ثمّ هاجر غلى المدينة المنوّرة. فالأمر جلل ويستدعي ويفرض البحث عن سبل وخطط جديدة لإزالة كل أنواع الأمراض والفيروسات المستعصية. فليس هناك مستحيل. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما أنزل الله داء، إلا قد أنزل له دواء. علمه من علمه وجهله من جهله".



   تابعونا على ڤوڤل للأخبار

Comments


0 de 0 commentaires pour l'article 164114


babnet
All Radio in One    
*.*.*